عندما تسقط القلاع

الدكتور عثمان العائدي في مكتبه بدمشق مع سامي مروان مبيّض سنة 2021.

 

سامي مروان مبيّض (دمشق، 6 تشرين الأول 2021)

 

في مطلع الأربعينيات، دخل الفتى عثمان العائدي على والده في إحدى قاعات منزلهم الكبير في #سوق_ساروجا، وطلب منه “عيدية” احتفالاً بقدوم عيد الأضحى. ابتسم الأب، وأخرج شهادة شراء أسهم في معمل الأسمنت وأخرى في شركة الكونسروة، باسم “عثمان أحمد منيف العائدي.”

“ما هذا؟” سألهُ الفتى بغضب، المتشوق لشراء الألعاب النارية لا الأسهم، فأجابه الأب: “أسهم يا أبني…أسهم في كبرى شركات سورية. هي أنفع لك من العيدية، خُذها…وتذكرني كلّما زادت قيمتها.”

قد يكون الجانب الاقتصادي غير معروف عن حياة المرحوم أحمد منيف العائدي، الذي دخل التاريخ من شقه العلمي، مؤسساً لمدرسة الكلية العلمية الوطنية في سوق البزورية، وكأحد مؤسسي كلية الطب في جامعة دمشق. ولكن بالإضافة إلى ذلك كله، كان عضواً مؤسساً في شركة الكونسيروة، مع الرئيس شكري القوتلي، وقد عمل فيها لسنوات رئيساً لمجلس إدارتها.

وقد صدق العائدي الأب في قوله، وتضاعفت قيمة الأسهم في يد ابنه عثمان، مما جعل منه مضارباً صغيراً في سوق البورص، المتفرّع يومها عن سوق الحميدية. ذهب بعدها إلى #فرنسا لدراسة هندسة السدود والري في معهد غرينوبل الشهير، وعاد إلى وطنه في كانون الأول 1955، مدرساً في جامعة دمشق. افتتح مكتباً خاصاً للدراسات الهندسية في بوابة الصالحية وفي سنة 1959 كان شريكاً مؤسساً في “بنك العالم العربي” مع صديقه المرحوم موفق الميداني.

التجربة المصرفية قبل التأميم

حدد رأس مال المصرف بعشرة ملايين ليرة سورية، وكان مقره عند جسر فكتوريا، بالقرب من ساحة المرجة. وقد طلب الشركاء من الدكتور ناظم القدسي، أن يكون رئيساً لمجلس إدارة مصرفهم الجديد، وهو سياسي عتيق كان رئيساً للوزراء والمجلس النيابي في سنوات ما قبل الوحدة، قبل أن يصبح رئيساً للجمهورية سنة 1961. وقد حقق “بنك العالم العربي” نجاحاً لافتاً، على الرغم من عمره القصير، وافتتح فروعاً في معظم المدن السورية، كان أكبرها وأربحها في حلب، قبل أن تشمله تأميميات الرئيس جمال عبد الناصر في تموز 1961.

لم ييأس كل من العائدي والميداني فقاما بفتح صفحة جديدة في حيتهم، أخذتهم للعالمية. موفق الميداني سافر إلى السعودية، حيث عمل مع شركة AT&T الأميركية على تأسيس قطاع الاتصالات في الرياض ثم انتقل إلى القطاع الفندقي ودخل شريكاً مع العائدي في فندق رويال مونسو بباريس، كما أقام عدداً من الفنادق الفاخرة والشهيرة في أوروبا، مثل الدورشتر في لندن والبوينتو رومانو في مدينة ماربيلا الإسبانية.

أمّا العائدي، فقد فضل البقاء في سورية ولم يعد إلى عالم المصارف إلا عبر تجربة واحدة مع بنك البحر المتوسط، الذي شارك في تأسيسه قبل بيع أسهمه لاحقاً إلى رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري.

فنادق الشام

ولكنه حقق نجاحاً باهراً مع سلسلة فنادق الشّام، عندما أحدث شركة مساهمة للاستثمار السياحي، طرحت أسهمها للاكتتاب العام في أول تجربة من نوعها منذ مرحلة التأميم. وقد أستهلم العائدي فكرة القطاع المشترك من نجاح مشروع مرفأ اللاذقية في مطلع الخمسينيات، الذي وقف خلفه رئيس الوزراء خالد العظم.

ساهمت الدولة السورية بنسبة %25 من فندق الشّام، وقامت بشراء البناء المعروف ببناء الكويتي من أصحابه آل غانم، بقيمة 14 مليون ليرة سورية. كان هذا البناء الضخم قد شيّد في مرحلة الوحدة من قبل مستثمرين كويتيين، ولكنه بقي هيكلاً فارغاً بعد انسحابهم من السوق السورية بسبب التأميم، إلى أن جاء العائدي لاستثماره سنة 1977.

وقد حدثني عثمان بك عن تلك التجربة قائلاً: “حصلنا على البناء علماً أن محافظة دمشق لم تكن تملك هذا المبلغ وقامت باستدانته من وزارة المالية، بتوجيه من الرئيس حافظ الأسد. أنشأت شركة الشّام للفنادق السياحية، وكانت مدتها القانونية 50 سنة، وامتلكت الشركة العربية السورية للمنشآت السياحية %60 من رأسمالها، ومحافظة دمشق %40.”

أشرف العائدي على بناء فندق الشام الأول بدمشق الذي كان يضم 400 غرفة ويمتد على مساحة أربعين ألف متر مربع، وقد بلغت قيمة إنشائه 48$ مليون دولار واستغرق بناؤه 30 شهراً. وقد فتح الفندق أبوابه للنزلاء يوم عيد الجلاء، بطلب من العائدي، في 17 نيسان 1983. ثم تلته عدة مشاريع مماثلة، عززت الشراكة بين القطاعين الخاص والعام، منها فندق الشاطئ الأزرق في مدينة اللاذقية سنة 1987، وفندق صافيتا الشّام سنة 1988، وفندق تدمر الشّام في البادية السورية، وفندق فرات الشّام في دير الزور، الذي افتتح سنة 1989.  في منتصف الثمانينيات، اقتنى العائدي فندقاً آخراً في باريس، قريباً من قوس النصر، يُدعى “فيرنيه”، وتلاه فندق شهباء الشّام في حلب عام 1989، ثم فندق أيبلا الشّام على طريق مطار دمشق الدولي وفندق أفاميا الشّام في حماة وأخيراً وفندق بصرى الشّام سنة 1990.

اللقاء الأخير

وقد ظلّ العائدي يُشرف على جميع هذه الأعمال بنفسه، متنقلاً وبشكل أسبوعي بين دمشق وباريس. لم يثنيه تقدمه بالعمر من هذا البرنامج الأسبوعي الشاق، كما لم تنل سنوات الحرب الأخيرة من عزيمته ونشاطه. ومن المعروف جيداً أنه أسس مؤسسة أحمد منيف العائدي للثقافة، التي تولّت طباعة العديد من الكتب والدراسات الهامة عن سورية، وفي سنة 2017، شرفنا بالانضمام إلى مجلس حكماء مؤسسة تاريخ دمشق، التي أفتخر بكوني رئيساً لمجلس أمنائها. وكانت علاقتي بالدكتور العائدي تعود إلى سنوات مضت، نطراً لصداقة قديمة بين شقيقته لمياء ووالدتي، وكان آخر اتصال بيننا منذ سنة تقريباً، عندما جاء من باريس للتعزية بوالدي.

“الله يطول بعمرك عثمان بك…أنت بركتنا.”

“أبوك سبقنا جميعاً…طول عمره مروان بك سبّاق، ويا ريتني أنا متت من زمان وما شفت شو صار بهي البلد.”

تحقق حلم عثمان بك في صباح هذا اليوم، وتوفي عن عمر ناهز 89 عاماً. بغيابه خسرت دمشق قلعة من قلاعها، وخسرت سورية مستثمراً عاشقاً، جمع بين المال والعلم والأصالة، أحبها بكل ما فيه من عواطف، وغاب عنها تاركاً خلفه سجلاً حافلاً من الإنجازات الاقتصادية، يصعب على التاريخ تكرارها أو نكرانها.

وداعاً عثمان بك…ستشتاق لك دمشق كثيراً.

***

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *