ذكريات 11 سبتمبر 

 

سامي مروان مبيّض – صحيفة الأهرام (القاهرة، 6 أيلول 2021)

 

قبل عشرين سنة، كنت أعمل في مكتب جريدة الديلي ستار ببيروت، الناطقة باللغة الإنجليزية. كان ذلك قبل انتشار ظاهرة الهواتف الذكية بعشر سنوات، وكانت الأخبار العاجلة تصلنا عبر اشتراكات الجريدة بوكالات الأنباء العالمية.

فى تمام الساعة 3:45 عصر بتوقيت بيروت ظهر على شاشة الكمبيوتر خبر عاجل بأن طائرة مدنية قد اصطدمت ببرج التجارة العالمي في مدينة نيويورك. ظنناه حادثا حتى جاء خبر اصطدام الطائرة الثانية بعد دقائق، وعرف الجميع أن حدثاً كبيراً قد وقع في أمريكا، ولم يكن قضاء وقدرا بل كان مفتعلاً.

توجه جميع الزملاء إلى مكتب رئيس التحرير وصاحب الجريدة، الصديق جميل كامل مروة، لمشاهدة قناة CNN تبث خبرها الشهير: AMERICA UNDER ATTACK. ضرب الأخ جميل بيديه قائلاً بصوت عالِ: “إلى مكاتبكم جميعاً، هذا هو عدد الغد.” ولأنى لم أكن أكتب فى الشئون الدولية، أذن لي بالخروج باكراً من مكتب الجريدة الكائن يومها في منطقة الجميزة.

أذكر مدينة بيروت وهي خالية من أي روح أو حركة، لأن جميع سكانها أغلقوا متاجرهم وعادوا إلى منازلهم لمتابعة الحدث الكبير. اتصلت بصديقة كانت تعمل في مستشفى جامعة بيروت الأمريكية لأخبرها عما حدث، وقد سمعني رجل بدين وأنا أتكلم على هاتفي المحمول. كان يرتدي قميصا داخليا ويُسرع فى إغلاق الستار الحديدي لمتجره. تقدم منى لاهثاَ وحدثني بلهجة بيروتية ثقيلة:

-أستاذ…أستاذ…كم طيّارة صاروا؟

– اثنين، وعم يقولوا في طيارة ثالثة ضربت البيت الأبيض (كما كانت الشائعة في لحظتها)

– بيّن مين وراها؟

– عم يقولوا الجيش الأحمر الياباني أو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (كما كانت الشائعة البيروتية تقول).

ابتسم ابتسامة عريضة لن أنساها في عمري ورفع يديه إلى السماء مبتهجاَ: “ينصر دينك يا نبيه بري، الله يخليلنا ياك.”

لمن لا يعرف لبنان، نبيه برى كان (ولايزال) رئيس مجلس النواب اللبناني، وهو زعيم حركة أمل من أيام الحرب الأهلية. ويبدو أن هذا الرجل كان من مريديه، أو أنه خدم فى حزبه أيام الحرب.

-عفواً شو دخل نبيه برى بالشي يللي عم يصير بأمريكا؟

-هيك عملة بدها رجال، ومافي غيرو رجال بيعملها.

هكذا كانت الزعامة في لبنان وبهذه الطريقة الساذجة كان ينظر البسطاء إلى زعمائهم. تذكّرت قول العالم الإيطالي جاليليو، عندما جاءه أحد طلابه سائلاً: “أحزينة هي الشعوب التي ليس لها أبطال؟” فكان جوابه: “بل حزينة هي الشعوب التي لاتزال بحاجة لأبطال.”

ضحكت بداية لما سمعت من هذا الرجل ولكن سرعان ما تحولت مشاعري إلى قلق حقيقي على مصير هذه الأمة. ما شاهدته يومها في بيروت يتكرر كل يوم فى كل عاصمة عربية وهو غيض من فيض من الحالة التي وصلنا لها، فنحن شعوب، نبالغ بالمحبة والولاء ونبالغ بالكراهية والحقد، ونصر على أن نتكلم فيما لا علم لنا به ولا خبرة.

الشعوب العربية بالعموم تعشق الكلام في السياسة، وهذا من حقها طبعاً، ولديها رأى واضح بكل قضايا العصر، وهو رأى مبنى على ثرثرة المقاهي ومشاهدة نشرات الأخبار التليفزيونية وليس على أي تحليل عميق أو قراءة علمية وموضوعية. يتعاملون مع الخبر كما صُدّر لهم، إمّا من زعمائهم أو من الفضائيات العربية، مستهلكين بدلاً من أن يكونوا صانعين، مفعولا بهم بدلاً من أن يكونوا فاعلين.

المصيبة تكمل عندما يُسمح لهؤلاء البسطاء أن يقودوا الشارع، بدلاً من النخب الفكرية، وتتفاقم عندما يتحول هؤلاء البسطاء إلى قادة رأي، يدخلون البرلمانات العربية، فيتحول رجل الشارع إلى عَلَم، ومن ثم إلى مُعلّم، وأحياناً إلى زعيم سياسي.

السياسة فنّ وعِلم لا تصلح لكل الناس، ففيها متطلبات أساسية، وأهمها معرفة عميقة بالتاريخ والجغرافيا، وعلى من يمتهنها أن يجيد المراوغة، والكذب، والصمت المطبق فى بعض الأحيان. لذلك يجب أن نُفرق بين من يعمل فى السياسة، ويُقال عنه سياسي. ومن يعمل على هامش السياسة، من كتّاب ومفكرين وإعلاميين وفنانين وقادة رأى ومجتمع مدني، وصولاً لمن يتناول السياسة في المقاهي والمجالس الخاصة والعامة.

ليس كل من تبوأ منصباً رفيعاً في بلاده أو دخل حزباً أو سجناً بسبب آرائه يصلح أن يقال عنه سياسي. طبعاً وليس كل مُنجم ومُبصر وضارب بالودع ظهر على الفضائيات العربية في السنوات القليلة الماضية يصلح أن يعرّف بلقب محلل سياسي. التحليل السياسي له أصول، ومنها أن يكون المحلل مطلعا على خفايا الأمور، أما بالتواصل مع مراكز صنع القرار أو أن يكون قارئاً نهماً وموضوعياً لتاريخ بلاده والعالم. فلا أحد اليوم يعرف تحديداً ما هو مصير الحروب الدائرة فى منطقتنا والى متى ستدوم، ولكن عند المنجمين أو المحللين السياسيين، هناك أشخاص توقعوا انتهاء الحرب السورية بالساعة والدقيقة، ورسموا نهاية وردية لحرب العراق، وسطروا كل تفاصيل اليوم الأخير من حرب اليمن.

بالعودة إلى صديقي اللبناني، صاحب نظرية نبيه برى وأحداث 11 سبتمبر. منذ مدة قصيرة شاهدته يتكلم فى السياسة على إحدى الفضائيات اللبنانية، ويُفتى بشئون الحكم وكأنه نبيه برى ذات نفسه. غاب عنه القميص الداخلي وكان يرتدى بدلة عصرية، ولكن منطقه لم يتغير على الرغم من مرور سنوات طويلة على لقاء الصدفة الذي جمعنا قبل عشرين سنة، فى يوم 11 سبتمبر 2001.

***

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *