دنانير الملك

 

سامي مروان مبيّض – صحيفة الأهرام (القاهرة، 18 تشرين الأول 2021)

 

في 19 أيلول 2021 عُقد مزاد في شركة ستيفان ألبوم الأمريكية المتخصصة ببيع وشراء النقود النادرة، وكان ضمن معروضاتها دينار سوري ثمين ونادر للغاية وزنه ست غرامات ونصف من عيار 900، كانت الحكومة السورية قد سكته في صيف العام 1920 لكنها لم تطرحه للتداول. أغلق المزاد بقيمة 57 آلف دولار أمريكي، عِلماً أن قيمة هذا الدينار أكبر من ذلك بكثير، بحسب الخبراء والمختصين.

تعود قصة هذا الدينار إلى فترة حكم الملك فيصل الأول في سورية من 1 تشرين الأول 1918 وحتى 24 تموز 1920. كان أول حاكم عربي عرفته بلاد الشّام بعد سقوط الحكم العثماني نهاية الحرب العالمية الأولى، وقد أخرج منها بقوة السلاح في 1 آب 1920، بعد هزيمة جيشه الصغير في معركة ميسلون علي يد الجيش الفرنسي. بايعه السوريون ملكاً عليهم في 8 آذار 1920، وأمر الملك فيصل بسك دينار ذهب يحمل اسمه من جهة واسم مملكته من الجهة الأخرى: “المملكة السورية.” وبالفعل تم سك الدينار ولكن نماذجه لم تجهز حتى 19 آب 1920، أي بعد تسعة عشر يوماً من خلع فيصل عن العرش وهروبه إلى أوروبا عبر مدينة حيفا الفلسطينية.

عُرضت النماذج يومها على رئيس الحكومة السورية علاء الدين الدروبي، وقيل أن عددها كان إحدى عشر قطعة، وقد نصح الدروبي إمّا بإبطالها وكسرها أو الاحتفاظ بها في متحف دمشق المؤسس حديثاً، مع إمكانية إهداء بعضها إلى ضيوف الدولة. الرئيس الدروبي لم يتمكن من فعل ذلك طبعاً لأنه قُتل في جنوب سورية بعد يومين فقط من صدور هذا القرار، وبقيت النقود محفوظة في المتحف الوطني، وعددها 11 حتى اليوم. وقد غاب ذكرها حتى ظهرت في أماكن مختلفة من العالم، كان آخرها في مزاد كاليفورنيا قبل أسبوعين.

بذلك، نسأل: هل كان عدد الدنانير أكثر من 11؟ الرقم غريب بعض الشيء، ومن المنطقي أن يكون الرقم إمّا 10 أو 12 أو 24، فما قصة الإحدى عشر دينار؟

الظهور الأول: دمشق

خلال سنوات الحرب الأخيرة، أقفل متحف دمشق الوطني أبوابه، ليُعاد فتحه في 29 تشرين الأول 2018. وبين مقتنياته الثمينة اليوم 11 نموذج من الدينار الفيصلي، قُدّمت عداً ونقداً من قبل وزير المالية في حينها فارس الخوري (الذي أصبح رئيساً للوزراء في الأربعينيات والخمسينيات). وقد نجت هذه الدينار من كل الحروب وكل الانقلابات العسكرية التي شهدتها سورية خلال سنوات القرن العشرين.

الظهور الثاني: عمّان

في عشرينيات القرن الماضي ظهرت إحدى تلك النماذج في الأردن، بعدما حصل عليها الملك عبد الله الأول (شقيق الملك فيصل). ورثها نجله الملك طلال ثم ذهبت لحفيده الملك حسين الذي قام بوضعها ضمن مقتنيات متحف عمّان الوطني عند إنشائه سنة 1989. وكان الملك عبد الله الأول يُشير إليها باستمرار عند تحدثه عن أحقية أسرته بعرش سورية، الذي ظلّ عبد الله يُطالب به حتى مقتله في القدس سنة 1951. لا نعرف كيف حصل الملك عبد الله على تلك القطعة، هل اقتناها من السلطات الفرنسية أمّ أن أحداً من مؤديه السورين؟ هذه القطعة ما تزال موجودة في متحف عمّان حتى اليوم.

الظهور الثالث: بغداد

وكانت دفعة ثانية من تلك الدنانير قد أرسلت للملك فيصل نفسه بعد توليه عرش العراق سنة 1921. فقد لحقه الكثير من السوريين يومها إلى بغداد ومن الممكن جداً أن يكون أحدهم قد حصل على تلك النقود وحملها معه إلى بغداد، تقرباً من الملك. كانت هذه الدنانير عزيزة جداً على قلب فيصل، تماماً كما كان عرشه المسلوب في سورية، وقد حاول مراراً استعادته من الفرنسيين، ولكن دون أي جدوى.

في مذكراتها المنشورة في لندن سنة 2002، تقول الأمير بديعة (بنت الملك علي شقيق فيصل): “سأكشف سراً لأول مرة، وهو أن عمّي الملك فيصل ظلّ طوال حياته يتذكر الشّام بخير، ويُعرب عن حبه العميق لها،  وتردد بيننا عائلياً بأنها ظلّت في نفسه لآخر لحظة في حياته…ربما لأن أهل الشّام كانوا أكثر إنصياعاً لحكمه من أهل العراق.”

وفي تلك المذكرات صور لنماذج من تصاميم الدينار الفيصلي، وجميعها مختلفة من النموذج الذي عُرض قبل أيام في كاليفورنيا. أمّا عن مصير الدنانير التي أُرسلت لفيصل، فلا أحد يعلم عددها وماذا حل بها. المعروف أن الملك فيصل تعرّض لحادثة سرقة في فندق بي فيو في العاصمة السويسرية بيرن، حيث كان يتلقى العلاج قبل وفاته في 8 أيلول 1933. هل كانت هذه النقود في حوزته يومها؟ أم أنها بقيت في بغداد ونُهبت مع بقية مقتنيات العائلة المالكة يوم اقتحام قصر الرحاب في 14 تموز 1958، عندما أعدما أعدم العسكر جميع أفراد الأسرة الحاكمة، وفي مقدمتهم الملك فيصل الثاني، خليفة فيصل الأول.

الظهور الرابع: القاهرة

أمّا عن النسخة الرابعة من النقود، فكانت ضمن مجموعة الملك فاروق في القاهرة حتى سنة 1952. من الممكن أن يكون فيصل نفسه قد أهداها لأبيه الملك فؤاد الأول أو أن فاروق اشتراها بنفسه، وهو أمر معقول جداً لكونه من أشهر جامعي الطوابع والنقود النادرة في العالم. لا نعرف إن كان الملك فاروق قد أخذ تلك النقود معه عند مغادرته مصر على متن المحروسة سنة 1952، أم أنها بقيت في إحدى قصوره في القاهرة. وإن كان ذلك صحيحاً، هل قُدّمت إلى الحكومة المصرية حسب الأصول، أمّ أن أحد عناصر تلك المرحلة قام بأخذها وبيعها لأحد جامعي النقود البريطانيين المقيمين في مصر؟ ففي المزاد الذي فض قبل أيام، تقول شركة “ستيفان ألبوم” أن بقية نماذج الدينار الفيصلي موجودة اليوم في خزنة متينة في لندن. ذات يوم قابلت الملك فؤاد الثاني، نجل الملك فاروق، وسألته عن هذا الدينار، فكان جوابه: “دينار أيه أفندم؟ هم خلولنا أي حاجة؟”

الظهور الخامس: لندن

قبل خمس سنوات، عرض الدينار الفيصلي بمزاد في الولايات المتحدة، ورسا يومها على شركة “مورتون & أيدن” البريطانية، بقيمة 22 ألف دولار. وهو ما يزال معروضاً للبيع اليوم، بقيمة 18 ألف جنيه إسترليني. وفي الصورة المعروضة على موقع تلك الشركة، يظهر هذا الدينار مختلفاً عن الدينار الذي عرض في شركة ستيفان ألبوم قبل أيام، هو هو أقل نظافة منه.

الظهور السادس: كاليفورنيا

ظهرت نسخة أخرى من الدينار ضمن مجموعة المقتني الأمريكي الطبيب لورانس أدامز، المتوفي في ولاية كاليفورنيا سنة 2015 ولا نعرف كيف حصل عليها ومتى، وإن كانت ماتزال ضمن مقتنيات أسرته. ولا نعرف إن كانت هذه النسخة هي ذاتها التي اختفت من بغداد أو القاهرة في خمسينيات القرن الماضي.

الظهور السابع: الرياض

هو موجود ضمن مجموعة خاص لجامع نقود سوري مقيم في السعودية.

 

يبقى السؤال….

لو كان عدد الدنانير مجرد 11، كما جاء في محضر الحكومة وفي الجريدة الرسمية يوم 19 آب 1920، فهذا يعني أن كل ما تم تداوله عالمياً هو عبارة عن قطع نقدية مزورة، لا قيمة تاريخية لها لأن محفوظات متحف دمشق لاتزال تحتوي على 11 دينار، عداً ونقداً. أو أن عدد الدنانير التي تم سكها سنة 1920 فاق هذا الرقم بكثير، دون علم الحكومة السورية، وهذا يعني أن عدد القطع “النادرة” هو أكثر بكثير مما كنا نتوقع.

 

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *