ذكرياتي مع صباح فخري

سامي مروان مبيّض – رصيف 22 (3 تشرين الثاني 2021)

 

نظرت إلى الساعة فوجدتها قد تجاوزت الثالثة والربع فجراً، ثم إلى صباح فخري وهو يرقص ويغني طرباً على خشبة مسرح فندق شيراتون صيدنايا. لا شيء كان يوحي أنه ينوي إنهاء الحفل عن قريب، بعد ثلاث ساعات من الغناء المتواصل. كان في السابعة والسبعين من عمره يومها وكنا ضيوفه في تلك الأمسية، ولكني قررت الرحيل بسبب مسافة الطريق إلى دمشق. نظرت إليه من بعيد ورفعت يدي مودعاً، فقال: “بكير أبو السّوم”.

صباح فخري في جامعة بيروت الأمريكية

هكذا كان يناديني العمّ “أبو محمد” منذ أن عرفني طفلاً في دمشق، وظلّ يناديني بهذا الاسم حتى آخر يوم في حياته. كبرت وكبرت الصداقة بيننا، حيث كان ابنه أنس من أقرب أصدقائي. دخلت جامعة بيروت الأمريكية في التسعينيات، وقررنا نحن الطلاب السوريين استضافته في حفل غنائي سنة 1997. جاء من دمشق، ولم يدخل قاعة الحفل المعروفة بالأسيمبلي هول (Assembly Hall) لتفقدها من حيث الصوت والتجهيزات الفنية، على الرغم من إلحاحنا نحن الطلاب. اكتفى بالقول:

“أعرفها جيداً منذ خمسين سنة”. قبل الحفل بساعة واحدة، دخل الأستاذ صباح ونهض على مسرح القاعة (وهي كنيسة قديمة غير مخصصة للغناء والطرب). وقف أمام الميكروفون وأنزله قليلاً ليكون على مسافة من فمه وأطلق كلمة واحدة: “أمان… أمان… أمان”، ظلّ يرددها حتى صارت تدوي بين جدران القاعة. ثم نظر إلينا وقال: “أنا جاهز والصوت منيح. تفضلوا”.

نظرت إلى الساعة فوجدتها قد تجاوزت الثالثة والربع فجراً، ثم إلى صباح فخري وهو يرقص ويغني طرباً على خشبة مسرح فندق شيراتون صيدنايا. لا شيء كان يوحي أنه ينوي إنهاء الحفل عن قريب، بعد ثلاث ساعات من الغناء المتواصل

من حضر هذه الحفلة يتذكرها جيداً، لأن فيها تم كسر بروتوكول الجامعة القائمة منذ عام 1866، حيث نهض المستمعون من الطلاب على كراسيهم وهم يرقصون ويتمايلون على ألحانه، وهو مخالف طبعاً لقوانين الجامعة. حاول موظفو الجامعة منعهم من ذلك، ولكن طربهم كان أقوى من سلطة الجامعة، تحولت القاعة إلى حالة عارمة من الطرب الأصيل العابر للأجيال وكل الطوائف.

وعند انتهاء الحفل، لفّ الأستاذ صباح حنجرته الذهبية بشال من الصوف، توقياً من برد كانون الأول وخرج مسرعاً لتناول السكر نبات. طلبنا منه صورة جماعية من الطلاب وقَبِل، وجميعنا يذكر كيف مرّت طائرة حربية إسرائيلية فوق سماء بيروت في تلك اللحظة، مخترقة جدار الصوت، ما جعله يستعجل بالرحيل خوفاً من وقوع عدوان إسرائيلي على لبنان: “أمشوا شباب… قبل ما ناكلها”.

تكررت الاجتماعات بيني وبينه، في بيته على أوتوستراد المزة في دمشق ثم في قرى الأسد، ثم في منزله في بيروت خلال سنوات التقاعد. ذات يوم ومنذ سنوات قليلة، وكان صباح فخري قد هرم وشاخ وتقاعد، سألته: “أين ترد كلمة بنان في أغنياتك عمّي”. أجابني طرباً وغنى: “ودّعت ببنان عقدهُ علم… وناديت لا حملت رجلاك يا جملُ”.

كانت الصحف يومها تتحدث عن فقدانه لرشده وقدرته على الغناء ولكنه غنى الأغنية كاملة، بنفس القوة والعنفوان التي عرفته به طوال حياتي. أذكر أن الغرفة كانت مظلمة بعض الشيء، وأني حاولت إخراج هاتفي لتسجيل تلك “الوصلة”، نظر إلى مبتسماً وقال: “أبو السّوم… شايفك، لا تسجل”.

صباح وفخري بك

تنوعت الأحاديث بيني وبين العمّ أبو محمد، وكثيراً ما كانت تدور حول الزعيم الوطني الكبير فخري البارودي، وهو الشخصية المفضلة عندي في تاريخ سورية الحديث. حدثني كيف دخل عليه للمرة الأولى سنة 1948، عندما كان قد جاء إلى دمشق بنية السفر إلى مصر للعيش فيها مع والدته.

“سمع فخري بك صوتي وقال: الله أكبر. مصر مافي! شيلها من راسك. أنت بتبقى هون وكل تكاليف دراستك على حسابي”. قام البارودي بجلب أساطين الموسيقى الشرقية لتدريس هذه العبقرية الحلبية، مثل مجدي العقيلي والشيخ عمر البطش، وأدخله إلى معهد الموسيقى الشرقية للتخصص في القدود والموشحات، وكان مقرّه في سوق ساروجا. وعند تخرّجه، قام البارودي بتوظيفه في إذاعة دمشق، ورد الأستاذ صباح الجميل وأعطى لنفسه اسم “فخري” تكريماً لمعلمه، وصار يعرف من يومها باسم صباح فخري، واسمه الأصلي صباح الدين أبو قوس.

“غضبت من فخري بك لأنه منعني من الغناء عند وصولي مرحلة البلوغ، لأن صوتي كان يمر بتقلبات كثيرة، ولم أفهم سبب إبعادي عن المسرح يومها”. ولكنه أدرك حكمة البارودي لاحقاً وظلّ وفياً له حتى النهاية. ففي سنة 2001 ظهر في فيلم “شيخ الشباب” للمخرج الراحل نبيل المالح، وهو فيلم وثائقي عن حياة فخري البارودي، وغنى فيه نشيد “بلاد العرب أوطاني” الذي كان البارودي قد وضعه في شبابه.

وفي شباط 2008، قبل الأستاذ صباح دعوة جمعية أصدقاء دمشق للمشاركة في ندوة عن حياة فخري البارودي، بالتعاون معي ومع المرحوم رجا شربجي، جار “فخري بك” في حيّ القنوات وأحد مريديه.

منذ سنوات، سألته عن علاقته بأم كلثوم، فقال لي: “كانت تسميني أبو كلثوم سورية، وكانت تقول لكل صديق لها يزور دمشق: والنبي عاوزة كاسيت لصباح فخري”.

سألته عن حقيقة دخوله موسوعة غينيس لغنائه عشر ساعات متواصلة في مدينة كاراكاس، وكان جوابه: “سمعت بذلك ولكني لم أره ولكن… من غيري يستحق أن يدخل غينيس؟”.

كنت أحزن من قلبي كلما انتشرت صورة له في سنوات الشيخوخة، واقرأ تعليقات رواد مواقع التواصل الاجتماعي، قليلة الأدب والوجدان. البعض قارن بين تلك الإطلالات واعتكاف سميرة توفيق الكلي عن الإعلام، والتقاعد غير المعلن من قبل السيدة فيروز، مشيرين إلى أن صباح فخري كان من يجب أن يسلك هذا الطريق الأنفع له.

كان رجلاً هرماً قارب التسعين من العمر، يمشي بصعوبة ويتحدث بصعوبة، ولكنه مصرّ على الحياة، ومصرّ أيضاً على متابعة أعمال الأجيال الصاعدة من الفنانين الشباب، عبر معهد صباح فخري للتراث في حلب. لم يشفع له سنّه المتقدّم ولا تاريخه الطويل مع الفن الأصيل، في حمايته من سخرية بعض رواد الفيسبوك من السوريين، الذين تساءلوا: “ألم يمت هذا العجوز؟”.

تذكرت كل النكات التي أطلقت على الشحرورة صباح قبل رحيلها، عندما تساءل بعض اللبنانيين والعرب: “متى ترحل الصبوحة؟”، كان جرمها الوحيد أنها رفضت التقاعد، لا من الفن ولا من الحياة، بالرغم من سنّها المتقدّم.

صباح فخري كان حالة فنية نادرة، لم يدخل في دوامة الحرب الطاحنة في بلاده، بل حفظ لسانه وابتعد كلياً عن السياسة. هذا الفنان الكبير دخل القصر الجمهوري فتىً يافعاً وفقيراً في أربعينيات القرن الماضي، يحمل تحت إبطه سجادة صلاة، ليغنّي بحضور رئيس الجمهورية شكري القوتلي.

أطرب الرئيس القوتلي يومها، وتكرّر ظهوره في عرس إحدى بناته، ثم عندما أذّن أمام الرئيس القوتلي ونظيره المصري جمال عبد الناصر في حلب، خلال زيارة الزعيمين إلى جامع جمال عبد الناصر في حي الكلاسة. لم يترك عاصمة عربية إلا ومر بها منذ ذلك التاريخ، تاركاً بصمات ما زالت واضحة في مخيلة كل من حضر حفلاته.

البعض يقول إن صباح فخري أساء لنفسه قبل أن يسيء له الآخرون، عندما ظهر بشكل غير لائق على بعض الفضائيات العربية منذ سنوات، وهو متعثر اللسان والقدرات الجسدية والصوتية، بدلاً من المحافظة على صورته الناصعة في أذهان الملايين من عشاقه.

قد يكون كلامهم صحيحاً، ولكني أعرف جيداً أن تلك الاطلالات كانت بنصيحة من أطبائه الألمان، بعد تعرّضه لجلطة دماغية، حيث قالوا لأسرته إنه لن يتعافى جسدياً قبل أن يشفى نفسياً.

“يجب أن يعود إلى العمل، إلى جمهوره وإلى الناس… لكي يشعر أنه ما زال حياً”. قد يكون الأطباء الألمان أساؤوا التقدير “فنياً” ولكنهم حافظوا على حياة الرجل، معتقدين أن ظهوراً غير لائق هنا وهناك لا يمكن أن يمحي خمسة وستين سنة من التألق والإبداع.

ولكن يبدوا أنهم لم يكونوا على دراية حقيقية بمعدن الشعب العربي، وأنه قصير الذاكرة أولاً وقليل الوفاء. الاستثناء الوحيد هو أهالي حلب، الذين تربطهم علاقة حب لا تنتهي مع “أبو محمد”، وشعب مصر الذي لم يسئ لأم كلثوم يوماً، لا في حياتها ولا بعد مماتها، وقد يتحوّل إلى شعب مفترس وعنيف لو تطاول أحد عليها.

الحالة نفسها تتكرر مع “الزعيم” عادل إمام، الذي قد لا يحبه البعض ويغار منه كثيرون، ولكن من المستحيل أن يتعرض إليه أحد من المصريين، معتبرينه هرماً مثل خوفو، أو قامة مثل أبو الهول.

المتعارف عليه عربياً هو أن عمالقة الفنّ المعاصر هم أم كلثوم ومحمّد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ، وهي تسمية شائعة منذ زمن جمال عبد الناصر، يتناقلها الناس دون أي تطوير أو تحديث، نظراً لقرب هؤلاء من الرئيس المصري وغنائهم المشهود له ولثورة يوليو.

وقد تم استثناء فريد الأطرش من هذه القائمة لأنه سوري، خوفاً من أي ولاء مزدوج لوطنه الأم خلال مرحلة الانفصال بين سورية ومصر. أما حان الوقت لتوسيع قائمة العمالقة رسمياً لكي تشمل فناناً غنى في قاعة بيتهوفين للسلام في ألمانيا، فناناً حمل اسم مدينته عالياً فوق رأسه وعلى كتفيه طوال ثمانية عقود من الزمن؟ ومع ذلك، لا توجد أي ساحة باسمه حتى اليوم، لا في حلب أو في دمشق، ولا شارع ولا تمثال.

أطلقت مصر أسماء العمالقة الثلاثة على شوارع رئيسية في القاهرة، وسمّي شارع باسم عبد الحليم حافظ في تونس، إضافة لشارع أم كلثوم في كلّ من أبو ظبي والقدس وتونس أيضاً، التي قامت صاحبة العصمة بافتتاحه بنفسها سنة 1968. صباح فخري ليس أقل شأناً وعظمة من هؤلاء الكبار، بل إنه مثل عبد الوهاب، مُلحّن ومغنّ ومجدّد في نفس الوقت، وليس فقط مطرباً موهوباً مثل عبد الحليم حافظ وأم كلثوم. ألا يستحق أن تصبح منطقة القصيلة في حلب، وهي مسقط رأسه، تعرف باسم “حيّ صباح فخري؟”

***

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *