حالمو النهار وأحلامهم المؤجلة

 

سامي مروان مبيّض – صحيفة الأهرام (القاهرة، 21 أيار 2022)

 

لكل منا مشاريع مؤجلة فى حياته وأحلام، تعثرت لأسباب مختلفة. أنا مثلاً كنت أحلم بتعلّم الخط العربي، والرسم، والعزف على العود، ولكنى فشلت فى تحقيق كل ذلك، نظراً لضيق الوقت وتقدمي بالسن. البعض ينتظر سنوات التقاعد لتحقيق أحلامه المؤجلة، وآخرون يحاولون توريثها لأولادهم. الأحلام المؤجلة كثيرة، وهي تنطبق على الدول أيضا، وما أكثرها في عالمنا العربي.

 

فى المدارس الأمريكية يوجد خمس علامات متعارف عليها للطالب: A للتفوق، B للجيد جدا، C للمتوسط، D للضعيف، F للراسب. وفى بعض الأحيان، تُعطى علامة (INCOMPLETE) لعدم إكمال المادة الدراسية على الرغم من نجاح الطالب بمقرراتها. لو أردنا إعطاء إحدى هذه العلامات لأحلام الوطن العربي، فسوف تتراوح حكما ما بين الرسوب المدوي والـINCOMPLETE. منذ استقلال هذه الدول عن الاستعمار الأوروبي وهي تُنادى بمشاريع طموحة وأحلام كبيرة، مشاريع محقة عن الوحدة والسيادة والاستقرار، وعن تحرير فلسطين.

 

فى النصف الأول من القرن العشرين، نجحت معظم هذه الدول فى تحقيق الاستقلال، ومضت فى محاولات نيل بقية أحلامها، ولكنها فشلت أو لم تُكملها. الوحدة العربية بدأت بين سوريا ومصر سنة 1958، وقيل يومها إنها ستستمر 100 عام، ولكنها لم تعمّر أكثر من ثلاث سنوات ونيّف، فقط لا غير. السيادة نُسفت مع احتلال فلسطين سنة 1948، ومجددا مع حرب عام 1967، وصولاً إلى احتلال بيروت عام 1982 والعراق عام 2003. أما الاستقرار فقد أطيح به على يد التغيرات السياسية العاصفة المتتالية التي بدأت من سوريا سنة 1949 وامتدت إلى معظم الدول العربية. طبعاً يبقى المشروع الأكبر، وهو تحرير فلسطين، سيّد الإخفاقات العربية. عكس مشاريع الناس العاديين، هو غير قابل للتأجيل إلى سنوات التقاعد، ولكن من الممكن جدا توريثه إلى جيل الأبناء والأحفاد.

 

خلال العقد الأخير، ظنّ البعض أن هذا المشروع قد ذهب أدراج الرياح، لأن العالم العربي غرق فى همومه الجديدة، من حروب سوريا واليمن وليبيا، وصولاً لظهور تنظيم داعش. مرّ قرار الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية للدولة العبرية دون أي اعتراض يذكر، ومعه كل الحملات اليومية ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، الذي تُرك وحيداً فى الميدان ليواجه مصيره المشئوم. اليقظة الأولى كانت في منتصف العام الماضي، عند انتفاضة الشعب الفلسطيني ضد تهجير أهالي حيّ الشيخ جراح في القدس، واليوم تأتى جنازة الإعلامية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، لتذكر العالم أن الحلم لا يزال قائماً. لم تكتف إسرائيل بقتلها، فهاجمت المشيعين فى جنازتها وضربتهم بالعصى أمام أعين العالم، محدثة موجهة من الغضب الجامح فى كل العواصم العربية. معظم المشيعين كانوا من الشباب، فى العشرينيات من عمرهم، ولدوا بعد الانتفاضة الأولى، وكانوا رضّعا فى زمن الثانية، التى غطتها شيرين أبو عاقلة بكل مهنية.

 

قد تمر هذه الحادثة مثلما مرت غيرها من قبل، دون إحداث تغيير حقيقي، ولكنها قد تتحول أيضاً إلى حدث مفصلي فى تاريخ القضية الفلسطينية، مثل زيارة أرييل شارون إلى المسجد الأقصى، التي أشعلت الانتفاضة الثانية. تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي مليء بأحداث مفاجئة ليس لها مُخطط أو منظر، ولِدت من ظرف تاريخي كان فيه احتقان كبير وغضب شديد وشعور جامع بالإذلال والمهانة. لن يؤدى كل ذلك طبعاً إلى “تحرير فلسطين،” كما حلمت شيرين أبو عاقلة وأمهات الشباب المتجمهر حول نعشها، ولكنه قد يؤدى إلى فرض واقع جديد داخل الأراضي المحتلة، يصب في مصلحة الشعب الفلسطيني، فيه شيء من العدل والإنصاف

 

الحلم إذاً يبقى مؤجلاً، لم يمت ولم يشخ، والحالمون اليوم هم هؤلاء المقدسيون الشباب، أبناء وأحفاد جيل عرب الـINCOMPLETE. خير وصف يليق بهم هو ما جاء على لسان الضابط البريطاني إدوارد لورانس، الذي شارك في معارك الثورة العربية الكبرى ضد العثمانيين خلال السنوات 1916-1918. قبل أن يولدوا بسنوات طويلة، جاء فيلم هوليودي عن حياته بعنوان “لورانس العرب” من بطولة النجم المصري الراحل عمر الشريف. فيه يقول لورانس: “كل الرجال تحلم، ولكن بدرجات مختلفة. أولئك الذين يحلمون بالليل فى استراحة أذهانهم يستيقظون فى النهار ليجدوا أن أحلامهم كانت سرابا. لكن حالمي النهار هم الخطيرون، فهم يمضون نحو حلمهم بعيون مفتوحة، ليجعلوا منها هدفاً في حياتهم.”

 

كانت شيرين أبو عاقلة من هؤلاء، كانت حالمة نهار، مثل كل شباب فلسطين الذين مشوا في جنازتها.

 

#فلسطين #القدس #شيرين_أبوعاقلة  #سامي_مروان_مبيض #الأهرام 21-5-2022

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *