جيل الدَّربَكة

 

سامي مروان مبيّض – صحيفة الأهرام (القاهرة 20 حزيران 2022)

 

في الولايات المُتَّحدة الأمريكيّة تُقسَّمُ الأجيالُ إلى سبعِ فئاتٍ، منها: جيل الأجداد الذي يُعرف بالجيلِ العظيم، وجيل طفرة المواليد  (Baby Boomers)، الذي ولد في مرحلةِ الرخاء التي تلت الحرب العالمية الثانية من 1945 وحتى 1964، وبعدهم يأتي الجيلُ اكس، الذي ولد ما بين 1965-1980، يليهم جيلُ الألفيّة Millennials والجيل واي) وهم من مواليد 1981 -1996، وأخيراً يأتي الجيلُ زد وهم من ولد بين عامي 1997-2012.

 

لا توجد هيئةٌ مُكلَّفةٌ بوضعِ هذه التسميات، وقد ساهم الإعلام الأمريكيّ في ترسيخها وانتشارها وتصديرها إلى أقاصي المعمورة. ولا توجد تسمياتٌ مُشابهةٌ في العالم العربي الذي تُقسَّم فيه الأجيالُ بحسبِ الحروبِ والهزائمِ التي عاصرها أبناؤه، وليس على سنوات ولادتهم، أو بحسب أي معطياتٍ طبّيّةٍ أو تقنيّةٍ. في وطننا العربي، جيلُ الأجداد كان يُعرف بجيلِ النكبة، ويأتي بعدهُ جيلُ الآباء المعروف بجيلِ النكسة. في سوريا مثلاً، عرّف الكاتبُ والمحامي نجاة قصّاب حسن جيله (وهو من مواليد عام 1920) بجيل الشجاعة؛ لأنَّهُ شارك في المظاهرات الكبرى ضدَّ الاستعمار الفرنسيّ، وشهد مرحلة الجلاء عام 1946، ثمَّ جاء الطبيب بشير العظمة، وهو رئيس وزراء أسبق من مرحلة الانفصال (من مواليد 1911) ليُعارضهُ ويقول: إنّ جيلَهُ هو جيل الهزيمة؛ لأنّهُ أخفق في بناء وطنٍ سليم معافى قادر على خلقِ مستقبل أفضل لأبنائه جميعهم، أمّا السياسي السوري منصور الأطرش (وهو من مواليد 1925)، فقد أطلق على جيله اسم الجيل المُدان، وقال الأديبُ عبد السلام العجيليّ (مواليد عام 1918م) إنّ جيلهُ هو جيل الدَّربَكة…جيل المنجزات الوهميّة، جيلٌ لا يُجيدُ إلّا الشعارات الرنّانة الزائفة، والضَّربَ على الدفوفِ والطبول.

 

لا أعرف ماذا سيُقال عن جيلنا في المستقبل؟ هل نحن جيل الفيسبوك والنضال الافتراضيّ خلف شاشات الهواتف الذكيّة؟ لم يكن هذا هو المأمول من جيلنا؛ جيل السبعينيّات والثمانينيّات، كان من المفترض أن نكون قد تعلَّمنا من أخطاء الآباء والأجداد، وأن نكون جيل التحوُّلاتِ الكبرى الذي عاصر عظمة شبكة الإنترنت في بداياتها. هذا الجيل بدأ حياته مع التلفاز الأبيض والأسود، ووصل اليوم إلى تقنيّة الهولو غرام، جيل عرف التواصل عبر الرسائل التقليديّة المكتوبة بخطّ اليد وصولاً إلى الإيميل، جيل انتقلَ من سماع الكاسيت إلى  Live Streaming، ومن أشرطة الفيديو السوداء إلى اليوتيوب. فقد وُضِعت بين أيدي هذا الجيل كمّيّةٌ هائلةٌ من المعلومات، فيها خلاصةُ تجارب الشعوبِ والأمم، ولكنَّهُ لم يستفد منها إلّا فيما ندر، لا بل أساء استعمالها في معظم الأحيان وقزَّمها، وحصرَ عظمة الإنترنت في الواتس اب والفيسبوك، وكلّ ما فيهما من ثرثرةٍ وترّهاتٍ وأخبارٍ مغلوطةٍ عن الماضي والحاضر والمستقبل.

 

كان من المُفترضِ أن يُطلَقَ على هذا الجيل اسم جيل القراءة؛ لأنَّ كتب العالمِ كلّها صارت متوافّرة على هاتفه الذكيّ، ولكنّهُ جيلٌ لا يقرأ، ولا يُنتجُ مادّةً علميّةً للقراءة. الإنترنت لم يكن يوماً بديلاً من الكتاب إلّا في بلادنا. في الغرب، لا تزال النُّخبُ الشبابيّة تنتجُ كتباً مطبوعة أو على كندل، وتؤلّف أبحاثاً في الاختصاصات كلّها تُغني بها شبكة الإنترنت. في تلك الدول، من يريدُ معلومةً علميّةً مُوثَّقةً يتوجّه إلى أقرب مكتبة، وليس إلى ويكيبيديا، وتبقى مهمّة مُحرّك البحث جوجل الرئيسية مقصورة على البحث عن عنوان، أو مطعم، أو أغنية…لا غير.

 

وكان من المفترض أن يهيّئ جيل القراءة الأرضيّة الصلبة للأجيال الأصغر منّا، جيل الألفيّة (Millennial)  والجيل زد، ولكنّنا لم نفعل. منذ أيّام كنت في لجنة مُخصَّصة لانتقاء مجموعة من الشبابِ لعملٍ علميّ يحتاج إلى الكثير من القراءة والبحث. جميعهم كانوا طلّاباً جامعيّين في مطلع العشرينيّات من عمرهم، أي من مواليد الأعوام 2000-2002. وقد تذكَّرت جلسةً مشابهةً قبل خمسةَ عشر عاماً مع الجيل الذي سبقهم. في كلتا المرّتين سألتهم: ماذا تقرأون قبل النوم؟

 

في المرّة الأولى سنة 2007، أي عندما كان فيسبوك في بداياته، كان جوابُهم: نقرأ لأحلام مستغانمي وباولو كويلو وغابرييل غارسيا ماركيز… تسعون بالمئة منهم اليوم أجابوا: “نقرأ فيسبوك.”

 

لملمت أوراقي وأحزاني، وخرجتُ من القاعة كئيباً، مشيت في شوارع دمشق الحزينة بالقرب من تكيّة السلطان سليم وجامعة دمشق حيث توجد (بسطات) الكتب المُستعملة القديمة. كانت الكتب مفروشةً على الأرض، إلى جانب بسطات الأحذية المُستعملة (البالية). كانا بالسعر نفسه، ولكنّ مشتري الأحذية كانوا وبكلّ أسف أضعاف القرّاء ومشتري الكتب من جيل الشباب.

***

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *