هل انتم من بلاد غوار أم بلاد داعش؟
سامي مروان مبيّض – مجلة الصيّاد (بيروت يوم 3 تشرين الأول 2016)
منذ قرابة الثلاثين سنة تعرفنا على عائلة تونسية في إحدى المدن الأوروبية وعند سماعهم لهجتنا الدمشقية سُئلنا بكثير من الود والمحبة: انتم من بلاد غوار؟ تكرر الموقف ذاته منذ فترة ليست ببعيدة، ولكن بطريقة مختلفة، قالوا لنا: أنتم من بلاد باب الحارة؟
لن ندخل مجدداً في تقييم مسلسل باب الحارة الشهير، بأجزائه الثمانية، فهذا الموضوع أُشبع نقاشاً في السنوات الماضية. ولكني أتساءل عن كيفية اختصار مجتمع عريق برمته عمره آلاف السنين بمسلسل واحد فقط تدور أحداثه في بيئة دمشقية مطلع القرن العشرين. السؤال أزعجني طبعا، على عكس الموقف السابق لأن غوار الطوشة شخصية وهمية يتعامل الناس معها على هذا الأساس، تذكرهم بأيام الطفولة والبساطة في العالم العربي. لا أحد يتوقع أن يرى غوار حقيقياً في حارات دمشق، ولكن بالمقابل كثر يبحثون عن أبو عصام وأبو بدر وغيرهم من شخصيات باب الحارة عند زيارة دمشق، وكأنها غدت نموذجاً حقيقياً عن أهلها.
من قال أصلاَ أنّ الحياة في دمشق تقوم على أركان حارة الضبع، من حلاق وقهوجي وسمّان ومخفر درك؟ أين جامعة دمشق ومجمع اللغة العربية في هذه الأعمال التي باتت تعرف اليوم بالبيئة الشامية؟ أين مكتب عنبر ومدارس الفرير واللاييك والفرنسيسكان؟ أين الكنيسة المريمية وكنيس جوبر وجامع بني أمية الكبير؟ أين الصحف والمطابع والندوات الثقافية؟ أين سينما روكسي ونادي الشرق ونادي أبولو ونادي دمشق العائلي؟
الأعمال الدرامية ليست مطالبة بإظهار كل هذه المعالم طبعاً، ولكن بدايةً من المعيب أن تُصنف كأعمال دمشقية أصلاَ، كي لا نظلمها هي ودمشق.
ما هو العمل الدمشقي؟ هل هو كل ما تدور أحداثه بدمشق، مثل صح النوم الشهير، علماً بأنه لم يأتِ على ذكر كلمة دمشق بالمطلق، أو مسلسل مرايا للنجم ياسر العظمة، أو فقط تلك الأعمال التي ترتكز على عناصر حارة الضبع؟ من اخترع هذه التسمية أصلاً في الدراما السورية؟ هل يوجد عمل بيئة بيروتية في لبنان؟ هل مسلسل ليالي الحلمية الشهير هو عمل بيئة قاهرية؟ السبب مادي بالمطلق وهو رغبة جمهور الخليج العربي بمشاهدة دمشق بهذا الشكل الفانتازي والفكاهي حصراً لأنه خفيف وممتع ومشوق بنظرهم، مثله مثل أعمال الكاوبوي الأميركية، ومنتجي أعمال البيئة الشامية استجابوا ببساطة لمطالب الفضائيات ومعلنيها.
المصيبة اليوم أننا في سوريا انتقلنا من فكاهة بلاد غوار إلى مصيبة بلاد باب الحارة ووصلنا إلى بلاد الموت واللجوء والحرب، وبتنا اليوم نُعرف ب بلاد داعش. منذ بضعة أشهر راسلني كاتب أميركي أعرب عن تضامنه مع بلدي الأسبق وقال بالإنكليزية يومها: Your former country! حاولت أن أشرح له بأن بلدي موجود…ممزق ومتعب ولكنه موجود، فرّد بالقول: بلادك اليوم هي بلاد داعش! في نظرة سريعة إلى الأعمال الدرامية السورية كافة المنتجة في السنوات القليلة الماضية، نرى أنّ الراية السوداء لا تغيب عنها في معظم مشاهدها، وأن جميع أحداثها يدور حول التطرف الديني، والقتل، وقطع الرؤوس، والخطف، وتجارة السلاح، ومخيمات اللجوء، والجنس، والحشيش، والغرق في مياه المتوسط. الصورة واقعية وقاسية طبعاً وهي مطلب الجمهور العربي والمعلن الخليجي، وكما يّقال في الوسط الفني المنتج على حق ولو كان غلطان.
عندما تُضاف تلك الأعمال إلى نشرات الأخبار اليومية بمشاهد الموت والتشرد تَخَلَّق صورة نمطية عن هذا الشعب في ذهن المشاهد سوف تبقى لعنة على السوريين لأجيال وأجيال وسترافقهم جميعاً حتى الممات.
هناك أجيال من العرب تعرف الجزائر ب بلد المليون شهيد، ولبنان ببلد الأرز والسيدة فيروز، وفلسطين ببيارات البرتقال وجبل الكرمل ومحمود درويش، والعراق بواحة هارون الرشيد وشعراء بلاطه. صحيح أن جميع هذه البلاد تعرضت الى حروب طاحنة قبل الحرب الحالية في سوريا، ولكن لا تصل تلك الحروب مجتمعة الى ربع ما شاهدناه وعشناه نحن في سوريا.
كذلك كنا نحن، مثل العراق ولبنان والجزائر، نعرف بايقوناتنا الثقافية ورجالاتها الوطنية قبل كل هذا التشويه والخراب. البعض أطلق علينا اسم: بلاد ياسمين نزار قباني، وعُرفنا أيضاً ببلاد ابن الوليد وزنوبيا، وبروحانية بن عربي ورجولة صلاح الدين وصلابة دولة معاوية. كنت أتمنى أن يقال لي: هل أنت من بلاد صباح فخري؟ أو ان يتعرف أحد على بلادي بسبب اختراع علمي معين غيّر وجه البشرية، أو مشفى متطور مثلاَ، ولكن شاءت الأقدار ان يدمر بلدي بهذا الشكل الرهيب، وأن تصبح صورة الطفل الغريق ايلان الكردي أو الطفل المصاب والملطخ بالدماء عمران في حلب أقوى من شعر المتنبي، ومشهد قطع الأعناق وأكل الأكباد وتدمير المدن أطول عمراَ في الذاكرة الجماعية من موشحات حلب وأشعار دمشق.
يا ليت لو بقينا نعرف ببلاد غوار أو بلاد باب الحارة!
***