دمشق تُرحب بكم وتودعكم

سامي مروان مبيّض – مجلة الصيّاد (بيروت، 17 تشرين الأول 2016)

 

نشر مركز كاتو الأميركي في واشنطن مؤخراً دراسة عن اللاجئين في الولايات المتحدة الأميركية، تقول إن احتمال مقتل مواطن أميركي على يد لاجئ داخل أمريكا (من دون تحديد جنسيته) لا تتعدى نسبة الواحد في ال 3.6 مليارات، في مقابل فرضية عالية تصل الى الواحد على ال 14 ألف لمواطن أميركي ممكن أن يُقتل إما طعناً أو رمياً بالرصاص من قبل مواطن أميركي آخر، لأسباب اقتصادية أو نفسية أو عرقية. أضافت الدراسة أنه وبعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر عام 2001، وصل الى الولايات المتحدة 75 ألف لاجئ من العراق والسودان وأفغانستان وليبيا وسوريا، وأن ثلاثة منهم فقط ألقى القبض عليهم بتهمة الإرهاب. مع ذلك قام 27 حاكم ولاية أميركية بإغلاق أبواب ولايته أمام اللاجئين السوريين خلال السنوات القليلة الماضية. علّق نجل المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية دونالد ترامب مؤخراً أن اللاجئين السوريين يشبهون سكاكر السكيتلز الأميركية الشهيرة، في إشارة منه الى انه لو قبلت الولايات المتحدة بواحد منهم فسوف لن تستطيع التوقف عن قبول المزيد، وأن كثرة اللاجئين تماما مثل كثرة السكيتلز، تضر بالصحة ومن الممكن أن تؤذي من يتناولها بكثرة.

السبب وراء هذا الخوف من اللاجئين السوريين وعنصرية نجل دونالد ترامب وغيره، هو وتيرة العمليات الإرهابية التي عصفت بأوروبا والعالم في السنوات الماضية، أخرها في مدينة نيس الفرنسية هذا الصيف، وتحديداً عند الدول التي فتحت أبوابها في استقبال اللاجئين السوريين القادمين على متن قوارب الموت عبر المتوسط.

منذ ألف سنة وصل شاب دمشقي الى شواطئ أوروبا، هارباً من الموت والقتل في بلاده. دمشق كانت تحترق يومها، وأقرباؤه من بني أمية كانوا يُقتلون ذبحا من الوريد الى الوريد على يد الجيل المؤسس للدولة العباسية. الأمير الشاب عبد الرحمن كان لم يتجاوز العشرين سنة من العمر عندما أصبح لاجئاً سورياً. رمى بنفسه في مياه الفرات، ثم هرب الى فلسطين وبعدها الى المغرب، ليصل الى أوروبا في خريف عام 755، بعد رحلة شاقة استمرت ست سنوات. أسس هذا الفتى الطموح دولة قوية في الأندلس حملت نَسَب أجداده من بني أمية، وعرف منذ يومئذ باسم عبد الرحمن الداخل أو صقر قريش. وغيّر هذا اللاجئ الدمشقي تاريخ العالم وتاريخ إسبانيا بالتحديد.

بعدها بقرون وصل لاجئ سوري آخر الى الغرب يدعى عبد الفتاح الجندلي من مدينة حمص وسط البلاد. وصل الى الولايات المتحدة عام 1950 ورزق بطفل اسمه ستيف وكُتب له أن يغير وجه العالم هو الأخر، ولكن عبر العلم والتكنولوجيا وليس عبر السياسة والغزوات العسكرية، عندما أسس شركة أبل وأجهزة “الأي فون” التي باتت جزءاً رئيسياً من عالمنا اليومي.

قصة هؤلاء اللاجئين السوريين، الأموي والحمصي، قد تكون خير دليل على أن ليس كل من غادر سوريا مدان، وليس كل من بقي فيها مخلص، والعكس صحيح طبعا. لعلنا نجد في إنجازاتهم وقصة نجاحهم بارقة امل لعشرة ملايين سوري هربوا من الموت والدمار في بلادهم خلال السنوات الخمس الماضية. كثير منهم لم يصل الى بر الأمان كما وصل عبد الرحمن الداخل، وسقطوا غرقاً في مياه المتوسط، مثل الطفل ايلان الكردي الذي أبكي العالم ببراءة طفولته المسلوبة عندما وصل الى السواحل التركية في أيلول/سبتمبر عام 2015، جثة هامدة ضحية للحرب السورية.

اللجوء والحروب ليست جديدة على سكان هذا المشرق، وتحديداً على أهالي دمشق، فالمدينة بحد ذاتها عبارة عن خليط من المهاجرين، من عرب وترك وفرس وأفارقة وشركس وكورد، جاءوا إليها عبر القرون هرباً من الموت او الجوع والعطش والبطش في بلادهم. البعض جاء باحثاً عن مسكّن أو علم أو عمل. وكثيرون جاءوا لمناخها الجميل، كونها واحة في الصحراء، ومنهم معظم صحابة النبي الكريم الذي فضلوا العيش والموت في دمشق على حياة وقساوة مدن الصحراء بعد دخول الإسلام الى بلاد الشام. معاوية بن أبي سفيان مثلاً لم يكن دمشقياً وكذلك أول حاكم للمدينة بعد 400 عام من الحكم التركي الأمير سعيد حفيد الأمير عبد القادر الجزائري، الذي جاء الى دمشق من بلاده الثائرة عام 1855 وعاش فيها وأحبها ومات فيها سنة 1883. وفي العصر الحديث، فارس الخوري جاء من حاصبيا في لبنان، وعائلة الرئيس شكري القوتلي جاءت من العراق، ورئيس الوزراء عبد الرحمن الخليفاوي جاء من الجزائر، ورئيس البرلمان عبد القادر قدورة جاء من مدينة خمس الليبية، وساطع الحصري جاء من اليمن، ومحمد كرد علي جاء من السليمانية في العراق. الى اليوم هناك أحياء في دمشق على أسماء اللاجئين: حي المغاربة عند الطرف الشرقي لتربة الباب الصغير وحارة الهنود في سوق البزورية وحارة السودان في سوق ساروجا.

الموجة السادسة في التاريخ المعاصر

موجة اللجوء كانت دوماً ذهاباً وإياباً، والموجة الحالية الهاربة من سوريا هي السادسة في التاريخ المعاصر خلال ١٠٠ عام وهي الأكبر من دون شك والأكثر إشكالية بسبب ظروفها الإنسانية.

الموجة الأولى كانت خلال معارك السفربرلك أيام الحرب العالمية الأولى، عندما هرب السوريون الى أقاصي المعمورة هرباً من الخدمة الإلزامية والموت المحتوم في صفوف الجيش العثماني. من أصل 2.8 مليون عربي سيقوا الى الخدمة في الجيش العثماني، استشهد 325 ألفاً منهم ما بين 1914-1918، و240 ألفاً ماتوا نتيجة الأمراض والأوبئة، وما لا يقل عن 200 ألف فقدوا في ارض المعارك او أُسِروا من قبل الحلفاء، ٥٠% منهم كانوا من السوريين.

هرباً من ذاك الجحيم استقر كثير من أبناء ذاك الجيل في الأميركتين، وأسسوا لمجتمع سوري مصغر داخل المجتمع الأميركي المتعدد الأعراق والجنسيات. قبلهم وصل الى بوسطن ونيويورك في ثمانينات القرن التاسع عشر ما يقارب ال 90 ألف سوري ما بين 1899 و1919. الجيل الأول من اللاجئين كانوا يسمون أنفسهم مهاجرين يومها لم يعودا للعيش في سوريا، أو في لبنان ومن أبرزهم على الإطلاق الأديب اللبناني جبران خليل جبران، الذي وصل أميركا عام 1895.

عندما احتل الفرنسيون سوريا عام 1920 بدأت موجة جديدة من الهجرة ولكن لاماكن أقرب هذه المرة منها فلسطين ومصر والعراق. القاهرة كانت درة الحياة الثقافية والاجتماعية يومها، وفتحت أبوابها أمام المهاجرين السوريين وتحديداً لرموز الحركة الوطنية منهم. الجالية السورية في مصر أسست لمطابع ومطبوعات، ومطاعم ونوادي فخمة، الى درجة أن ملك مصر الراحل فؤاد الأول أعجب بعملهم وعلمهم وأمر بتخصيص مقعد لهم في البرلمان المصري، حدد للجالية السورية بالتحديد، أو الشّوام كما كان المصريون يسمونهم يومها.

الموجة الثالثة من اللجوء كانت عام 1925 عند اندلاع الثورة السورية الكبرى. ردت فرنسا بقصف دمشق بالمدفعية وبحرق قرى كاملة في ريف العاصمة السورية وفي جبل الدروز، مما أدى الى مقتل الآلاف وتهجير ما لا يقل عن 25 ألف مواطن سوري، وجدوا ملاذاً أمناً في بيروت والقاهرة وبغداد. في هذه المرة عادوا جميعاً الى بلادهم وكانت هجرة مؤقتة لم تدم بعد عام ١٩٢٧.

الموجة الرابعة كانت عام 1960 عندما غادر سوريا عدد كبير من الصناعيين والمصرفيين والملاكين، هرباً من السياسات الاشتراكية الجائرة وتأميم الأملاك والأرزاق في جمهورية الوحدة مع مصر. أسسوا شركات كبرى حول العالم، للتجارة والصناعة واستخراج النفط، ومصارف محلية ضخمة منها مصرف لبنان والمهجر في بيروت، وعملوا في التعليم والطب والهندسة في الخليج العربي والأردن ولبنان.

الموجة الخامسة وكانت مطلع الثمانينات، خلال المواجهات الدامية بين حركة الإخوان المسلمين والرئيس حافظ الأسد. جميعهم بقوا في الخارج حتى اليوم.

الموجة السادسة طبعاً هي اليوم بدأت عام 2011 ولا نعرف نهايتها بعد، وهل ستكون الأخيرة في تاريخ سوريا. لاجئو اليوم ما زالوا يتأقلمون مع عالمهم الجديد، والكثير منهم سوف يصبح عبأ على مضيفيه بدون شك، ولكن البعض منهم قد يغير مجرى التاريخ تماماً كما فعل ستيف جوبز وعبد الرحمن الداخل.

***