سايكس ـ بيكو إذ تصبح نكتة

سامي مروان مبيّض – صحيفة السفير (دمشق 17 أيار 2016)

 

دخلنا العام الجديد منذ خمسة أشهر وعالمنا العربي بحالة يرثى لها، وشبح الموت يخيم على كل مفاصل الحياة فيه. فلسطين ما زالت تقبع تحت أبشع احتلال عرفه التاريخ الحديث، وليبيا تحتضر وهي تنتظر حرباً جديدة قيل لنا إن الأميركيين سيقودونها على السواحل الليبية لمحاربة تنظيم داعش هذا العام. السودان مقسّم ولبنان في حالة موت سريري بطيء ينتظر الفرج، إما سوريا ومعها العراق، فكلاهما ممزق يعاني من حرب شرسة لم تعرف النهاية بعد، حصدت آلاف الأرواح منذ احتلال بغداد العام 2003 وبدء الصراع في سوريا العام 2011.

في هذا الشهر تحلّ الذكرى المئوية لاتفاقية “سايكس بيكو” التي قسمت مشرقنا العربي دويلات، ظهر منها لبنان الكبير وفلسطين، ثم إمارة شرق الأردن، والدولة السورية التي عاشت داخل تلك الحدود المزيفة منذ ذلك اليوم حتى العام 2011. هل تعلّمنا الدرس بعد مرور كل هذه السنين الطويلة؟ الجواب قطعاً “لا،” والدليل هو خريطة العالم العربي اليوم. سايكس بيكو نجحت لأننا سمحنا لها أن تنجح. رضينا بحدود تلك الاتفاقية وبمساحاتها المقزّمة، وقبلنا بزعامات تلك الدويلات، وها نحن اليوم ندافع عن تركة مارك سايكس وجورج بيكو وكأنها منزلة من عند الله.

منذ عامين احتفل الأوروبيون بمرور قرن كامل من الزمن على اندلاع الحرب العالمية الأولى. أوروبا تعلّمت درساً قاسياً من تلك الحرب التي كلفتها سبعة عشر مليون قتيل ومن الحرب العالمية الثانية التي راح ضحيتها أكثر من ستين مليون شخص. كانت الحملة الأوروبية للذكرى المئوية بعنوان “لن تُعاد،” ورفع هذا الشعار في كل المدارس والجامعات والمكاتب والمطارات ومحطات القطار. أمّا في عالمنا العربي، وبعد مرور قرن كامل من الزمن على الحرب العظمى، فلم يختلف الكثير على أهلنا من جيل الى جيل. إذ هم اليوم تماماً كما كان أجدادهم منذ قرن: يدفنون موتاهم ببؤس، يحاربون حروب الآخرين على أرضهم، ويموتون لتحيا مطامع الدول العظمى.

مدينتي دمشق هي خير دليل على هذا الكلام. كانت منذ 100 عام تعاني الأمرين من الحرب العالمية الأولى، فالشوارع كانت مليئة بجثث الموتى الهامدة، بعضهم قتله الجوع والآخر سقط قتيلاً بنيران الفوضى المحلية، والبعض بقي مرمياً على الأرض لأيام عدة قبل أن تتفسخ جثته أو تأكلها القوارض. المستشفى الحميدي الكبير في حي البرامكة، المعروف لاحقاً بـ”مستشفى الغرباء” أو بـ”المستشفى الوطني،” كان مزدحماً هو الآخر، إما بجثث الموتى المصفوفين جنباً إلى جنب، بعضهم بلباسه العسكري الرسمي والبعض الآخر عارياً تماماً، أو بمن ينتظر رحمة الموت، إما جريحاً أو عليلاً، نتيجة وباء التيفوئيد والكوليرا اللذين عمّا دمشق خلال الحرب. وقد عاش أهالي دمشق شتاء ذلك العام وصيفه الملتهب من دون كهرباء، بعدما نعموا بنور “الكوران” (أي الكهرباء باللغة العامية) لعقد كامل من الزمن، حيث قطعت السلطات العثمانية التيار الكهربائي بشكل كامل عن المدينة لعجزها المالي. أصبحت الشوارع مظلمة وغير آمنة بعد المغيب، وراحت مجموعات من اللصوص تهاجم أسواق القماش ليلاً وبوايكية الخيل ومخازن الحبوب من دون أي تدخل من مخافر الدرك، التي أغلقت أبوابها أمام الناس. ثم جاءت كوكبة من الإشاعات لتقتل ما تبقى من عزيمة عند الدمشقيين، أبرزها أن الجيش الألماني المرابط في المدينة ينوي تلغيم دمشق ونسفها عن بكرة أبيها، عقاباً لأهلها الداعمين للثورة العربية وانتقاماً لحلفائهم الأتراك. هيمن الخوف على أهالي دمشق، ولزم العقلاء والشيوخ بيوتهم للدفاع عن عرضهم وشرفهم، وتوجه الفتيان إلى المتاجر لحماية الأرزاق، وأصبحت دمشق مدينة أشباح. جاء إلى دمشق كاهن مسيحي من ولاية مينابولس الأميركية وكتب عن مشاهدة الموتى في شوارع المدينة قائلاً: «الجوع في كل مكان، ورجال دمشق إما في الخدمة الإلزامية أو في السجون أو فارون من الجيش وخارج البلاد. نساؤها وأطفالها أحيلوا إلى دركِ العوز».

مَن أوصل دمشق إلى هذا الحال يومها، ومَن أوصل حلب وطرابلس وبغداد إلى الحرب العام 2016، لم يقرأ التاريخ جيداً ولم يدرك أن تدخلات الخارج لم تكن بقصد المجيء بالخير لهذه البلاد.

الأوروبيون رفعوا الصوت عالياً وقالوا: «لن تعاد». أما نحن فقد عدناها ألف مرة ومرة. وحدنا نتحمل المسؤولية عما جرى لبلادنا وما سوف يجرى في السنوات المقبلة، لتصبح «سايكس ـ بيكو» مجرد نكتة ولنصبح نحن، كبرى النكات.

***