مَن هو عبد الرحمن باشا الذي احترق قصره بدمشق؟

سامي مروان مبيّض – مجلة المجلّة (لندن، 17 تموز 2023)

عندما غادر عبد الرحمن باشا اليوسف قصره العامر في منطقة سوق ساروجا، يوم 21 أغسطس/آب 1920، متجهاً إلى سهل حوران مع رئيس الحكومة علاء الدين الدروبي، لم يخطر في باله أنه لن يعود إليه أبدا. كانت هذه هي الرحلة الأخيرة للباشا، الذي كان أميراً لمحمل الحج الشامي في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، يقوده سنوياً من دمشق إلى مكة منذ تسعينيات القرن التاسع عشر.

عرف الباشا الكثير من المخاطر في أسفاره، من هجمات قاطعي الطريق والذئاب مرورا بالجفاف والعطش، ولكن هذه الرحلة كانت هي الأخطر… التوجه إلى حوران لإقناع الأهالي بضرورة عدم الدخول في مواجهة مع السلطات الفرنسية التي احتلت دمشق قبل أسابيع، ودفع الغرامة المالية التي فرضها الجنرال هنري غورو، مندوب فرنسا السامي في سوريا ولبنان. كان الباشا يملك أراضي زراعية شاسعة في سهل حوران، يُديرها وكيله الوجيه الكبير أحمد مريود، وهو من زعماء الجولان، وقال إنه “يمون” على الأهالي ويمكنه التحدث معهم بلغة العقل، مصطحباً معه الشيخ عبد الجليل الدرة، أحد المدرسين القدامى في مدينة درعا.

وعندما وصل الوفد الحكومي إلى محطة خربة غزالة، لاحظ أحد الجنود السنغال المرافقين للباشا ورئيس الحكومة أن بعض الناس كانوا يحملون في أياديهم بنادق. كان هؤلاء الجنود الأفارقة حديثي العهد في سوريا، لا يعرفون شيئاً عن أهلها وعاداتهم، وقد جرّتهم فرنسا من مستعمراتها الأفريقية ظناً أنهم كمسلمين، يمكنهم التفاهم مع أهالي سوريا. تخوف الجندي السنغالي من مشهد السلاح في يد الأهالي وقام بإطلاق النار على الواقفين على مدرج المحطة، فرد الحورانيون النار وحدثت فوضى عارمة. نهض الباشا من مقعده وسمع يقول: “هاتوا المشايخ لنتفاهم!” وبعدها نزل إلى المحطة بنفسه وتوجه إلى الطابق العلوي للاتصال بدمشق وطلب تعزيزات عسكرية، ولكن الثائرين اعترضوه وقتلوه. وكذلك فعلوا مع رئيس الحكومة، أمّا وزير الداخلية عطا الأيوبي، فقد نجا من الموت بأعجوبة، عندما تعرف إليه تاجر دمشقي من حيّ الميدان وقام بنقله إلى مكان آمن.

خوفا من تجدد القتال، قطعت فرنسا الطريق الواصل بين دمشق ودرعا، وبقي جثمانا اليوسف والدروبي في خربة غزالة لغاية 20 سبتمبر/أيلول 1920، حيث أعيدوا إلى ذويهم في نعشين من خشب وتم لفهما في علم الجمهورية الفرنسية المنتدبة. توقف جثمان اليوسف في داره لكي تتمكن أسرته من إلقاء نظرة الوداع، ونقل بعدها إلى مدافن العائلة في تربة الدحداح ليوارى الثرى، في موكب مهيب تقدمه رئيس الحكومة الجديد جميل الألشي، ومعه مفتي دمشق الشيخ عطا الله الكسم، ورؤساء الطوائف المسيحية.

تاريخ القصر

ورث الدار الفسيحة من بعده أبناؤه الذكور، ومنهم فؤاد وحسن سامي اليوسف، الذي درس في جامعة بيروت الأميركية وعمل في الزراعة وكان أحد مؤسسي الحزب الوطني في عهد الاستقلال، وسعيد اليوسف، الذي درس في الأكاديمية العسكرية في فيينا وأصبح محافظاً على مدينة دمشق سنة 1949. وقد بقي أفراد الأسرة مقيمين في قصر اليوسف – الذي كان يطلق عليه العوام اسم “سرايا الباشا” – حتى سنة 1964، ليغادروا تباعاً بسبب تكلفة الصيانة وصعوبة العيش في منزل ضخم بهذا الحجم، وهذا طبعاً بعد القضاء على ثروة الأسرة ومصادرة أراضيها في عهد الوحدة مع مصر سنة 1958. جميعهم كانوا يعودون له في الأفراح والأتراح، ليقيموا فيه ولائمهم ومآتمهم، ولكن المنزل خلا من الحياة اليومية منذ منتصف السبعينيات ولغاية اندلاع الحريق الكبير الذي قضى عليه كلياً فجر يوم الأحد 16 يوليو/تموز 2023.

وبناء القصر يعود إلى منتصف القرن التاسع عشر وقد اشتراه محمد باشا اليوسف، والد عبد الرحمن، من الوجيه سليم كلاراميني. وورثه عبد الرحمن عن أبيه وقام بتوسيعه لاستضافة إمبراطور ألمانيا غليوم الثاني أثناء زيارته إلى دمشق في نوفمبر/تشرين الثاني 1898، ولكن الوجيه أحمد رفيق باشا الشمعة طالب بأن يكون له هذا الشرف، مدعياً أن قصره في باب الجابية كان أوسع ويمتد بطول ثلاث حارات بأكملها. وقد تدخلت الدولة العثمانية وقالت إن الإمبراطور سيكون في ضيافتها أثناء وجوده في دمشق، وتقام له المآدب مناصفة بين قصري اليوسف والشمعة. وفي العشاء الذي أقيم له قدم الباشا السجاد والمجوهرات والخيول العربية، ورد الإمبراطور بثريا فاخرة جاءت معه من قصوره، ظلّت تزين السراي لسنوات.

عبد الرحمن باشا اليوسف بلباس التشريفات العثماني.

عبد الرحمن باشا اليوسف بلباس التشريفات العثماني.

من عبد الرحمن باشا؟
عبد الرحمن باشا اليوسف هو سليل أسرة كردية استوطنت دمشق في مطلع القرن التاسع عشر. ولد سنة 1871 وتلقى علومه في قصر أبيه في ساروجا على يد مدرسين كبار أحضروا من إسطنبول لأجله. ورث إمارة الحج الشامي عن جده وهو في العشرين من عمره سنة 1891 وساند السلطان عبد الحميد الثاني لغاية وقوع الانقلاب العسكري الذي أطاح به سنة 1908. عاد بعدها للعمل مع جمعية الاتحاد والترقي ليصبح رئيسا لفرعها بدمشق وعضواً في لجنتها المركزية. اختير بعدها عضواً في مجلس المبعوثان العثماني، وفي سنة 1914 اختير عضواً في مجلس الأعيان. كان اليوسف رجلاً ذكياً إلى أبعد الحدود وقـد أدرك، مـع تقـدم الحرب العظمى، أنها ستؤدي إلى نهاية الإمبراطورية التي عرفها وعمل لأجلها طوال حياته. لا شك أنه تخوف كثيرا من الفوضى والجوع الذي اجتاح المدينة من حوله، ولكنه وطوال سنوات الحرب، لم يغير من ولائه ولم يفكر في التخلي عن العثمانيين أو مساندة الثورة العربية الكبرى التي انطلقت من مكة سنة 1916.

أما بعد زوال الحكم التركي سنة 1918 فقد أعاد اختراع نفسه بشكل بارع على الرغم من تحفظاته على حاكم سوريا الجديد، الأمير فيصل بن الحسين. أسس حزباً سياسياً بدمشق يدعى الحزب السوري الوطني، وانتخب عضوا في المؤتمر السوري العام (أول برلمان) ونائبا لرئيسه هاشم الأتاسي قبل تعيينه رئيسا لمجلس الشورى يوم 26 يوليو/تموز 1920. نصب الباشا نفسه زعيماً على مدينة دمشق، وكانت أبواب قصره تُفتح أمام الفقراء والمحتاجين في كل مساء، لتصبح عرفاً من أعراف سوق ساروجا.

كان الناس يأتون القصر من كل حدب وصوب، إما لتناول العشاء أو للتوسط لدى الباشا لحل مشاكلهم مع دوائر الحكم العثماني. وفي أوقات المجاعة والأوبئة، كان أول المتبرعين للدولة العثمانية وعند اندلاع الحرب العالمية سنة 1914، قدم 3500 ذهبة للخزينة، مع خمسة آلاف كيلو من الحنطة والشعير. ومع مطلع القرن العشرين، كان الباشا يملك كامل الشاطئ الشرقي من بحيرة طبريا، وثلاث قرى بأكملها في غوطة دمشق الشرقية، إضافة لخمس قرى في سهل البقاع وأربع وعشرين قرية في الجولان، ما جعله، بحسب أقاويل ذلك الزمان، أغنى مسؤول عربي في الدولة العثمانية، لا يضاهيه إلا جاره أحمد عزت باشا العابد، ثاني أمناء السلطان عبد الحميد الثاني.

عبد الرحمن باشا اليوسف، رئيساً لمجلس الشورى سنة 1920.

عبد الرحمن باشا اليوسف، رئيساً لمجلس الشورى سنة 1920.

جميع الكتب المدرسية المطبوعة من قبل الحكومات السورية منذ سنة 1920 ذكرت اليوسف بشكل عابر واعتبرت أن مقتله “علي يد الثوار” كان بسبب انقلابه على الملك فيصل. هذا الكلام مبسط وغير صحيح تاريخياً، ولكنه يبدو أنه أرضى جميع الأطراف، ولم يحاول أحد التأكد من صحته بل تبناه الجميع وكأنه حقيقة دامغة. ولم يُدِن أحد من الحكام سنة 1920 جريمة اغتيال اليوسف والدروبي، ولم تطلق أي حكومة اسمه على مدرسة أو شارع، كما أنها لم تمنحه صفة الشهادة كما فعلت مع فوزي الغزي – واضع دستور الجمهورية السورية الأول – الذي اغتيل بعد بضع سنوات. وكأن قراراً جماعياً قد اتخذ بتغييب سيرة اليوسف، دون الإعلان عنه، وتصفيته معنوياً وسياسياً بعد القضاء عليه جسدياً. الذكر الوحيد لليوسف اليوم هو على لوحة رخامية وضعت على مدخل مستشفى ابن النفيس، الذي تبرعت أسرته بأرضه للدولة السورية في مطلع الثلاثينيات، وفي قصر العظم حيث يوجد مجسم له ولمحمل الحج الذي ارتبط به طول حياته.

وبعد أقل من سنة على حادثة خربة غزالة، تعرض الجنرال غورو لمحاولة اغتيال أثناء زيارته لمدينة القنيطرة، فطاردت فرنسا غريمه طيلة ثلاث سنوات حتى تمكنت من اعتقاله وإعدامه. ولكنها لم تفعل شيئا مع قتلة عبد الرحمن اليوسف ولم تكشف حتى عن دوافع الجناة. كما لم يحصل أي تحقيق مع عناصر الدرك الذين اختفوا لحظة وقوع الجريمة، أو مع الضباط الفرنسيين المرافقين للوفد. وفي 21 سبتمبر/أيلول 1920 نشرت جريدة العاصمة الرسمية الحكومية خبراً صغيراً على صفحاتها الداخلية، جاء فيه أنه تم إعدام ثلاثة من الجناة، دون ذكر اسمهم، وصدر بيان مقتضب عن رئيس الحكومة أن “حادثة حوران” قد “أقفلت.”

لم تقنع هذه التحقيقات أبناء اليوسف، الذين حاولوا مراراً فتح تحقيق جديد في الحادثة، ولكن حكومة الانتداب منعتهم من ذلك. كما تساءل الأبناء كيف ترك مرافق أبيهم الخاص مصطفى الأيوبي في دمشق، بناء على طلب من الفرنسيين الذين أكدوا للباشا أنه لا داعي له وأن حماية الأمن ستكون على عاتق سلطة الانتداب؟

كثير من السياسيين المعاصرين لليوسف تركوا مذكرات هامة عن حياتهم، ولكن وحده القاضي والوزير يوسف الحكيم تطرق إلى جريمة خربة غزالة بإسهاب في كتابه الشهير سورية والانتداب الفرنسي، أما بقية الرفاق، مثل وزير المعارف في حينها ساطع الحصري، ووزير المالية فارس الخوري فقد مروا عليها مرور الكرام حتى إنهم اختلفوا في تاريخ وقوعها. الخوري سجلها في 31 أغسطس/آب، وقال عبد العزيز العظمة، شقيق وزير الحربية يوسف العظمة، أنها حدثت في 20 أغسطس/آب. لا يوجد بلد عربي يختلف فيه المؤرخون والمعاصرون في تاريخ حدوث جريمة معاصرة بهذا الحجم، ففي لبنان الجميع يعرف متى وكيف اغتيل رياض الصلح ورشيد كرامي ورفيق الحريري. وفي الأردن الكل يعرف كيف اغتيل الملك عبد الله الأول ووصفي التل، وكذلك الحال في مصر مع محمود فهمي النقراشي باشا، وغيره.

إذن يمكن القول إن عبد الرحمن باشا اليوسف اغتيل ثلاث مرات، كانت الأولى في حياته سنة 1920 والثانية بعد طمس سيرته في السنوات التي تلت الجريمة، لتأتي الثالثة يوم احتراق داره هذه الأيام، لتقضي على ما تبقى من إرثه في المجتمع السوري بالعموم، والدمشقي بالخصوص.
***

 

 

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *