مصير قصور دمشق المتهالكة

سامي مروان مبيّض – رصيف 22 (بيروت 25 شباط 2021)

 

في دمشق اليوم سوق شعبي يُعرف بسوق “الحراميّة”، متّصل بمنطقة ساروجا الأثرية، التي كانت في زمن مضى تحتوي على أفخم قصور المدينة خارج سورها التاريخي. ومن يمرّ بهذا السوق العشوائي والقذر (وهو عبارة عن بسطات على الرصيف) يرى باباً كبيراً في منتصفه، تعلوه لوحة رخامية نُقش في وسطتها شعار السلطنة العثمانية، تعود ملكيته إلى عبد الرحمن باشا اليوسف، أمير الحج في عهد السلطان عبد الحميد الثاني.

قصر عبد الرحمن باشا اليوسف

القصر مُدمّر ومتهالك من الداخل، يسكنه رجل بسيط، ولد في رحابه منذ سبعة عقود، كان جدّه يعمل لدى عبد الرحمن اليوسف، المتوفي عام 1920. في مدخل القصر نجد إسطبل الباشا والذي كان يحتوي على أفخر الخيول العربية، وهو اليوم عبارة عن ورش ودكاكين مؤجرة لأصحاب مشاغل صغيرة.

شهد هذا القصر عدة أحداث تاريخية هامة، بما في ذلك الانقلاب على السلطان عبد الحميد والحرب العالمية الأولى، وفيه حلّ عدد من الضيوف الكبار، مثل الوالي مدحت باشا، وإمبراطور ألمانيا غليوم الثاني، يوم زيارته دمشق سنة 1898.

قصر اليوسف في سوق ساروجا.

قصر اليوسف في سوق ساروجا.

في رحاب هذا القصر قُدّمت للإمبراطور الهدايا النفيسة، من سجّاد ومجوهرات وحرير دمشقي. يومها قام الباشا بشراء عدد من الآليات الزراعية الألمانية، التي كان القيصر غليوم شديد الافتخار بها، لتوزيعها على أراضيه والترويج لها أمام الملّاكين السوريين من أقربائه وأصحابه. ردّ القيصر الجميل وقدّم لباشا ثريّا نفيسة، جاءت معه من أحد قصوره النمساوية، ظلّت معلقة في قاعة بيت ساروجا لسنوات طويلة.

لكن، وبعد خروج أبناء الباشا من دارهم سنة 1964، قام أحد تجّار الأنتيكا بنقلها إلى لبنان، وهي موجودة اليوم في مقر السفارة الكويتية في بيروت. وفي وسط الفسحة السماوية بحرة رخيصة وضعت بدلاً من البحرة الحجرية الأثرية، التي تمت سرقتها إلى خارج دمشق بنفس الطريقة الملتوية.

في وسط إحدى الفسحات السماوية الثلاث التي كانت تزيّن وسط القصر، نجد بقايا حفريات لأشخاص مجهولين قاموا بها منذ مدة، بحثاً عن ذهب الباشا المفقود منذ مئة عام.

مع مطلع القرن العشرين، كان عبد الرحمن اليوسف يملك كامل الشاطئ الشرقي من بحيرة طبريا، وثلاث قرى بأكملها في غوطة دمشق الشرقية، إضافة لخمس قرى في سهل البقاع، وأربع وعشرين قرية في الجولان، ما جعله، بحسب أقاويل الناس في عصره، الرجل الأغنى بين المسؤولين العرب في السلطنة العثمانية.

ليونقصر آل اليوسف.

ليوان قصر آل اليوسف.

يوم مقتله في سهل حوران في صيف العام 1920، تساءل الناس عن مصير ذهب الباشا، الذي لم يُعثر على أي أثر له، لا في المصارف العثمانية ولا في البنوك العالمية. ومنذ ذلك اليوم، يحاول اللصوص البحث عن الذهب في باطن قصره الدمشقي، لعلهم يجدونه مدفوناً تحت الركام الأثري. كانت آخر محاولة سنة 2017، والتي أثارت اشتباه أجهزة الأمن السورية، خوفاً من أن تكون هذه الحفريات متصلة بأنفاق غوطة دمشق.

قصر أحمد عزت باشا العابد

وعلى مقربه من قصر عبد الرحمن باشا اليوسف، نجد قصر صديقه في بلاط السلطان عبد الحميد، كبير الأمناء، أحمد عزت باشا العابد. حالة هذا القصر ليست أفضل بكثير من حالة قصر اليوسف. أسس هذا القصر هولو باشا العابد، والد أحمد عزت باشا، وورثه محمد علي العابد عن أبيه، وهو أول رئيس جمهورية في سورية. أبناء اليوسف خرجوا من قصرهم طوعاً في مطلع الستينيات، لضخامة تكاليف صيانة منزل بهذا الحجم. أما أبناء العابد فقد باعوا قصرهم لرجل يدعى سليم اليازجي سنة 1948، والذي سكن مع أسرته في الطابق العلوي، وحوّل بقية القصر إلى مدرسة معروفة باسم “الثانوية الأهلية للبنات والبنين،” كانت رئيستها الفخرية السيدة أسماء جبريل عيد، حرم رئيس الحكومة فارس الخوري.

بعد حرب عام 1967، صادرت الدولة السورية المدرسة، أو القصر، لمصلحة مديرية تربية محافظة القنيطرة، التي قامت بتحويله إلى ثانوية للنازحين السوريين، حملت اسم “مدرسة نجم الدين عزت”، وبقي القصر على هذا الشكل حتى نهاية السبعينيات، عندما لم يعد يصلح لأي عمل تربوي، بسبب تآكله وانهيار أقسام كبيرة منه، فأُجّر قسم “السلملك” لورشة أحذية تخرّج نعالاً بدلاً من العقول والزعامات.

تعرّض القصر لحريق ليلة رأس السنة عام 1993، التهم ما بقي من نفائس في داخله، واستطاعت عائلة اليازجي استعادته بعد سنتين عندما ربحت دعوة قضائية على الدولة السورية. القصر مازال قائماً حتى اليوم، ولكنه بحالةٍ يرثى لها، يقف شاهداً على تراجع نفوذ العائلات الدمشقية الكبرى ومكانتها، داخل مدينتها وفي حاراتها العتيقة.

قصر محمد فوزي باشا العظم

وعلى الجدار الملاصق لقصر اليوسف، نجد قصر محمد فوزي باشا العظم، آخر الباشوات الثلاثة المقيمين يوماً في سوق ساروجا، والممتد على 2500 متر مربع. فيه عاش وعمل العظم، رئيساً لبلدية دمشق في العهد الحميدي، ووزيراً في إسطنبول في زمن السلطان محمد رشاد الخامس، شقيق السلطان عبد الحميد. وفيه انتُخب العظم أول رئيس لأول برلمان في تاريخ سورية الحديث (المؤتمر السوري الأول)، قبل وفاته سنة 1919.

ورث ابنه الوحيد خالد العظم هذا القصر النفيس، ومنه حكم سورية عبر فترات متقطعة، منذ عام 1940 وحتى الإطاحة به وبحكمه سنة 1963. صادرت الدولة ما تبقى له من أملاك لم يطلها تأميم جمال عبد الناصر، وحوّلتها لمؤسسات عامة، مثل مكتبه الأنيق مقابل حديقة السبكي، والذي شغله لسنوات طويلة نائب رئيس الجمهورية، عبد الحليم خدام، وإحدى مزارعه في غوطة دمشق، التي تحولت إلى معمل الأدوية “تاميكو”.

أما قصر سوق ساروجا فقد تحول إلى متحف للفنون الدمشقية، وخصص جزء منه لمتحف الوثائق التاريخية التابع لوزارة الثقافة السورية، ليكون الوحيد بين القصور الثلاثة الذي ما زال يحتوي على وظيفة واضحة المعالم، فيه “روح” موظفين ومراجعين وزوار.

***

 

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *