زيّنو المرجة: أغنية بلا مغنّي ولا مؤلف أو ملحّن

 

سامي مروان مبيّض – رصيف 22 (بيروت 6 أيار 2021)

 

في دمشق نقول “زيّنوا المرجة”، نسبة إلى ساحة المرجة، وفي بيروت “زيّنوا الساحة” نسبة لساحة البرج.

لعلّها من أشهر الأغاني الوطنية في سورية ولبنان والتي تعود، بحسب الرواية الشعبية، إلى يوم السادس من أيار/مايو سنة 1916، عندما غُنيت بشكل عفوي من قبل الأهالي، إثر إعدام أكثر من عشرين رجلاً من قادة المجتمع السوري واللبناني، من مثقفين وسياسيين وضبّاط، في ساحات بيروت ودمشق. نعرف أسماء الشهداء جيداً وكذلك اسم من أمر بإعدامهم، وهو الحاكم العسكري العُثماني الشهير جمال باشا، عضو جمعية الاتحاد والترقي الحاكمة في إسطنبول منذ عام 1908. ولكننا لا نعرف اسم ملحّن هذه الأغنية ولا المغنّي ولا المؤلف، ولا حتى إن كانت هذه الرواية حقيقية أم مجرد خيال.

بعيداً عن العواطف ورمزية هذه القصة الجميلة التي يتوارثها السوريون واللبنانيون عبر الأجيال، كان من المستبعد خروج الناس من بيوتهم في ذلك اليوم التاريخي، ليغنّوا تحدياً في شوارع مدنهم الثكلى، وأمامهم جثث هامدة لأعيانهم ومثقفيهم وزعمائهم الكبار، معلقة على أعمدة المشانق، تتمايل مع الرياح.

الخوف كان سائداً بشدة في حينها والثورة العربية الكبرى لم تكن قد بدأت، وأي تحرّك من هذا النوع كان يحتاج إلى قائد، حتى لو كان من بسطاء القوم، قادر على حشد الناس ووضع كلمات الأهزوجة وتحفيظها لهم. ولا يوجد أي إشارة في كتب التاريخ لهكذا شخص في شوارع دمشق أو بيروت يوم 6 أيار 1916. وحتى بعد إعلان الثورة العربية في صيف ذلك العام، كان عدد المنتسبين إليها متواضعاً في البداية، بسبب الخوف المهيمن على المجتمعين السوري واللبناني.

وكيف لجمال باشا أن يقبل بهكذا تحدٍّ من بسطاء المدن، بعد أن أمر بشنق جميع قادتهم؟ وكان في مقتل الأعيان رسالة واضحة لعامّة الشعب، أن أحداً لن يسلم من العقاب، مهما علا شأنه في المجتمع الدمشقي، في حال تعرّضه للسلطان أو السلطنة.

الرواية الأقرب إلى المنطق هي أن هذه الأغنية لم تُطلق في 6 أيار 1916 بل بعدها بعشر سنوات، يوم عُرض جثمان الشهيد أحمد مريود في ساحة المرجة، بعد مقتله في قرية جبّاتا الخشب في الجولان يوم 31 أيار 1926. يومها كان هناك حراك حقيقي في مدينة دمشق ومجتمع مدني قادر على إطلاق مبادرة شجاعة من هذا النوع، تقوده شخصيات وطنية متعلّمة وفعّالة ومنفتحة على تجارب العالم، مثل الطبيب عبد الرحمن الشهبندر، خريج جامعة بيروت الأميركية، وصديقه حسن الحكيم، خريج كبرى جامعات إسطنبول.

بعد مقتل مريود، تم نقله إلى دمشق لعرض جثمانه أمام الناس، بهدف إرهابهم وإسكاتهم. فخرج الدمشقيون من بيوتهم لتحية الجثمان، وكان ذلك في السنة الثانية من الثورة السورية الكبرى. رشّوا أرض المرجة بماء الزهر ووضعوا وروداً عند أقدام الشهيد مريود وهم يغنّون: “زيّنوا المرجة”.

لا نعرف ما هي كلمات الأغنية الأصلية التي أطلقت يومها، لأن النسخة الحالية من “زيّنوا المرجة” هي من تأليف الفنان دريد لحام، الذي أحياها في سبعينيات القرن الماضي وأضاف عليها فقرات جديدة مثل: “أصايل أصايل… جدايل جدايل” و”بسماك البشاير بأرضك نواير”، ثم جاء المرحوم منصور الرحباني وطورها مجدداً في مسرحية “صيف 840” التي عُرضت سنة 1988، وغنى فيها المطرب اللبناني غسان صليبا “زيّنوا الساحة”.

شهداء دمشق كانوا كلهم دمشقيين باستثناء شهيد واحد من ريف دمشق، أما شهداء بيروت فكانت هوياتهم مختلطة، منهم بيارتة ومنهم دمشقيون، ومعهم مواطن يوناني مقيم في بيروت وشخصيات وطنية من يافا والقدس وصيدا.

تم تحويل هذا اليوم إلى ذكرى سنوية يحتفل بها أهالي سورية ولبنان منذ نهاية الحكم العثماني سنة 1918.

شهداء دمشق كانوا كلهم دمشقيين باستثناء شهيد واحد من ريف دمشق، أما شهداء بيروت فكانت هوياتهم مختلطة، منهم بيارتة ومنهم دمشقيون، ومعهم مواطن يوناني مقيم في بيروت وشخصيات وطنية من يافا والقدس وصيدا

في 3 تشرين الأول من عام 1918، دخل الأمير فيصل بن الحسين مدينة دمشق، مُعلناً تحريرها بالكامل من الحكم العثماني وإقامة حكومة عربية في داخلها باسم أبيه، الشريف حسين بن علي، قائد الثورة العربية الكبرى. توجّه فيصل إلى ساحة المرجة لقراءة سورة الفاتحة على أرواح شهداء 6 أيار، وقرّرت الحكومات السورية واللبنانية المتعاقبة من بعده اعتماد هذا اليوم عيداً وطنياً لشهداء سورية ولبنان كافة. مع مرور كل سنة، كانت قائمة الشهداء تكبر، وقد أضيف إليها جميع شهداء المظاهرات ضد الفرنسيين بعد سنة 1920، وجميع ثوار سورية خلال ثورتهم الوطنية الكبرى.

ثم جاءت حرب فلسطين الأولى سنة 1948، التي شاركت بها فرق من الجيشين السوري واللبناني، واستشهد خلالها عدداً كبيراً من رعايا البلدين. ظلّت اللجنة المنظمة لعيد الشهداء تذكر اسم كل شهيد، مع تفاصيل عن أسرته وعمره ومكان استشهاده، ولكن هذا التوثيق توقف عند اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية سنة 1975، عندما كثر الموت في لبنان ولم يعد باستطاعة أحد إحصاء الشهداء وتتكرر ذلك مع اندلاع الحرب السورية سنة 2011.

ساحات غُيّرت معالمها

لم يبق من عادات العيد الأصلي اليوم إلّا أغنيتي “زيّنوا المرجة” في دمشق و”زيّنوا الساحة” في بيروت، فحتى الساحات تغيّرت وفقدت الكثير الكثير من معناها. بالرغم من محافظة ساحة المرجة على اسمها، صارت مركزاً لإعدام المجرمين لا الشخصيات الوطنية، وقد بدء هذا العُرف في الأربعينيات واستمر حتى نهاية السبعينيات، عندما قرّرت السلطات السورية إلغائه لأنه مؤذٍ للنظر، مرعب للأطفال وطارد للسواح.

وكان أشهر “مجرم” أعدم بساحة المرجة هو الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين سنة 1965. وبعدها بدأت الساحة الدمشقية تفقد الكثير الكثير من خصوصيتها ورمزيتها، بسبب هدم الأسواق العتيقة المحيطة بها والسماح بفتح خانات وفنادق صغيرة من فئة النصف نجمة، التي تحوّلت مع الوقت إلى بيوت بغاء، لا يرتادها إلّا الطبقة الفقيرة من السيّاح وأهالي البلد. حتى أن تصميم الساحة طرأ عليه تغيرات كبيرة، بالرغم من بقاء العمود الشهير وسطها.

ظهرت حولها أبنية حديثة ولكنها فاقدة لأي ذوق أو جمالية، مبنية على الطراز السوفيتي القديم، مثل بناء الفراديس وبرج دمشق، وأُهملت الأبنية الأنيقة المتواجدة في جوارها، مثل بناء العابد العريق.

وفي بيروت، كانت الحالة مماثلة. خلال الحرب الأهلية، تحوّلت ساحة البرج الجميلة إلى خط تماس بين ميليشيات الحرب الأهلية، وصار محيطها عبارة عن ركام. وكان لبنان قد شيّد نصباً تذكارياً للشهداء الساحة الأصليين في مطلع عهد الانتداب الفرنسي، وضعه النحّات يوسف حويّك، وهو تمثال لسيدتين لبنانيتين، واحدة مسيحية والثانية مُسلمة، تندبان على قبر. ولكنه أزيل لاحقاً واعتبر أنه كان يرمز للخنوع والذل.

وفي سنة 1952، أعلنت حكومة الرئيس صائب سلام عن جائزة دولية لوضع تصميم جديد لساحة الشهداء، وتم اعتماد قوس بارتفاع 27 متراً وعرض 24 متر وتحته مسلة ارتفاعها 8 أمتار، تعلوها مصطبة على جانبيها شعلتان دائمتا الاشتعال، إلا أن الثورة ضد الرئيس كميل شمعون أنهت العمل بهذا المشروع سنة 1958.

ثم جاء التصميم الحالي في عهد الرئيس فؤاد شهاب سنة 1960، الذي وضعه النحّات الإيطالي مارينو مازاكوراتي، وهو عبارة عن تمثال امرأة ترفع مشعلاً بيد وتحيط بيدها الأخرى شاب، وعلى الأرض أمامها ووراءها شهيدان. وأخيراً كان تفجير مرفأ بيروت قبل تسعة أشهر، الذي زاد من أعداد شهداء بيروت وحطم أبنية عريقة في جوار ساحتها، منها طبعاً، مبنى جريدة النهار.

***

 

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *