أنستاسيا بغداد

 

سامي مروان مبيّض – رصيف 22 (7 تشرين الأول 2022)

قي تاريخ العائلات المالكة في أوروبا الكثير من القصص عن أميرة هربت مع عشيقها، حارساً كان أم نادلاً أو ضابطاً، ولكن لا نسمع بهذه القصص المثيرة في عالمنا العربي، ولو سمعنا بها تكون عادة قصصاً معاصرة حدثت في زمن الانفتاح والتحرر وسهولة السفر، وليس في بغداد الثلاثينيات، كما حدث مع الأميرة عزة بنت الملك فيصل الأول، مؤسس الدولة العراقية الحديثة. قليل من الناس تطرقوا لقصتها يومئذ، احتراماً لأبيها وجدّها، الشريف حسين بن عبد الله، ملك الحجاز وقائد الثورة العربية الكبرى ضد الدولة العثمانية.

فيما يلي فصل من تاريخ العراق، أراد كثيرون أن يبقى منسياً.

ولدت الأميرة عزة في إسطنبول سنة 1905، وهي أكبر أولاد الملك فيصل الذي كان يومها أميراً يعيش في قصر مُطل على البوسفور. دخل فيصل البرلمان العثماني (مجلس المبعوثان) نائباً عن مدينة جدة، قبل أن ينضم إلى صفوف الثورة العربية الكبرى التي قام أبيه بإعلانها سنة 1916، تاركاً عزة في رعاية أمها الشريفة حزيمة بنت ناصر، وجدتها الشركسية بزميجيهان، أم فيصل. وكانت خالتها الأميرة مصباح متزوجة من الأمير عبد الله بن الحسين، شقيق فيصل، مؤسس مملكة الأردن.

بين مكة ودمشق وإسطنبول

غاب فيصل عن أولاده طوال سنوات الثورة العربية الكبرى (1916-1918)، حيث عاشوا في مكة مع نساء العائلة، وفي نهاية العام 1918، جاء بهم إلى دمشق بعد تحريرها من الحكم العثماني ومبايعته حاكماً عربياً على سورية. كانت الأميرة عزة قد بلغت الثالثة عشرة من عمرها عندما وصلت مع نساء الأسرة إلى دمشق، لتُغادرها مُجبرة بعد خلع أبيها عن العرش في 24 تموز 1920.

في بغداد

نقلت عزة إلى مكة مجدداً، قبل أن تستقر مع أمها في بغداد سنة 1924، بعد ثلاث سنوات من تتويج فيصل ملكاً على العراق، وقد عاشت في كنف أبيها حتى وفاته في إحدى مستشفيات سويسرا سنة 1933. لم تكن البنت المفضلة لدى الملك فيصل، الذي وجه كل عواطفه نحو شقيقتها الصغرى الأميرة رفعية، بسبب سقوطها من يد إحدى الخادمات وهي رضيعة، ما أدى إلى شللها بالكامل، وقد يكون هذا التفضيل أحد أسباب نقمة عزة على أسرتها.

بعد وفاة أبيها تسلّم شقيقها الملك غازي الأول عرش العراق، وكان يأخذها معه في إجازاته الصيفية إلى اليونان، حيث تعرّفت على نادل إيطالي يُدعى أنستاس (وبعض المصادر تقول إنه يوناني). أحبته عزة وبقيت على علاقة غرامية معه، تخاطبه بالسر عبر الرسائل المكتوبة، بعيداً عن أعين الأسرة المالكة في العراق.

هروب الأميرة

وفي سنة 1936، تظاهرت عزة بالمرض، وأخذت تسعل بصورة مستمرة وتبصق على الأرض دماً مزيفاً (تبين فيما بعد أنه عبارة عن جاكليت حمراء). عاينها أطباء القصر وقالوا إنها بحاجة إلى قسط من الراحة، فأمر الملك غازي بسفرها إلى جزيرة رودس مع شقيقتها وثلاث خادمات للسهر على خدمتها.

من رودس، توجهت عزة إلى أثينا، حيث كان العاشق أنستاس في انتظارها، وتم عقد قرانهما في فندق الأتلانتك، بعد أن خرجت عزة عن دين الإسلام واعتنقت المذهب الأرثوذوكسي المسيحي، لتغير اسمها إلى “أنستاسيا” تيمناً بزوجها “أنستاس” والدوقة أنستاسيا، بنت قيصر روسيا نقولا الثاني، التي قيل يومها إنها نجت من مجزرة عائلة رومانوف في موسكو، وكانت تعيش في أوروبا.

تركت عزة رسالة مكتوبة باللغة الإنكليزية لشقيقتها، تخبرها فيها أنها قررت الانشقاق عن العائلة المالكة لتتزوج ممن تحب، لأن شقيقها وأمها لن يقبلا ارتباطها بزوج مسيحي يعمل نادلاً في المقاهي. سارعت شقيقتها إلى فندق الأتلانتك وطلبت مقابلة “الأميرة عزة بنت فيصل”، ولكن عامل الفندق قال إنه لا يوجد أي نزيلة بهذا الاسم. وبعد المراجعة، تبين أنها دخلت الفندق باسمها الجديد “أنستاسيا.”

سنوات التشرد والضياع

ثار القصر الملكي في بغداد عند سماع خبر هروب الأميرة، وصدر قرار ملكي بطردها من الأسرة الهاشمية، وسحب كل الألقاب والمخصصات التي كانت تتلقاها من شقيقها الملك غازي. ظلّت عزة، أو “أنستاسيا”، تعيش في اليونان بعد أن حصلت على الجنسية الإيطالية من زوجها، ولكنها عانت كثيراً من الفقر والحرمان، بعد أن استولى الزوج على أموالها ومجوهراتها، وقام ببيعها بأبخس الأثمان لكي يعيش، وهو رجل بسيط غير متعلّم وغير مؤهل لأي وظيفة تضمن له ولأسرته الصغيرة دخلاً محترماً.

سافر مع عزة إلى جزيرة قبرص بحثاً عن عمل، وعندما لم ينجح، حطّ به الرحال في لندن، حيث قرر الانفصال عن عزة سنة 1939، قبل أشهر قليلة من بدء الحرب العالمية الثانية.

عادت عزة بعدها إلى روما، وحيدة وفقيرة، حيث أقامت تحت مراقبة مخابرات بنيتو موسوليني، الذي خصص لها راتباً شهرياً من الحكومة الإيطالية خلال السنوات 1940-1944. ومع تقهقر القوات النازية والفاشية في الحرب، قُطع عنها المعاش، وعاشت عزة متسولة في الشوارع، تستجدي عطف المواطنين العرب المقيمين في روما، الذين تصدقوا عليها شفقة واحتراماً لأبيها وجدها.

أما في العراق فقد مُنعت الصحف من نشر أخبارها، ولم يجرؤ أحد على ذكر اسمها في مجلس غازي (الذي توفي سنة 1939) أو ابنه الملك فيصل الثاني. وفي سنة 1945، علمت أن ابن عمها الأمير عبد الإله، الوصي على عرش العراق وابن الملك علي (أكبر أولاد الشريف حسين)، كان ينوي زيارة لندن لمقابلة رئيس الحكومة ونستون تشرشل. توجهت عزة إلى لندن ومثلت أمامه بثيابها الرثة، باكية شاكية ما حل بها من مصائب. طلبت منه العفو والمغفرة، وحزن الأمير عبد الإله وعرض عليها العيش في القدس، وتخصيص مبلغ مالي شهرياً لتعيش منه، شرط ألا تخبر أحداً عن اسمها الحقيقي. طبعاً، لم يكن في وسعها إلا القبول.

العفو الملكي

سافرت عزة إلى القدس، حيث عاصرت حرب عام 1948 الذي أدى إلى ضم المدينة إلى المملكة الأردنية بعد احتلال فلسطين. لم تقترب لا من عمّها الملك عبد الله أو من خالتها الملكة مصباح. وفي أحد الأيام اجتمعت صدفة مع ابن عمها الأمير نايف، الذي عرفها على الفور. طلبت منه عزة التوسط لدى الملك عبد الله لاستقبالها في قصره بعمّان، وقالت إنها نادمة على ما فعلت وتريد العودة إلى كنف الأسرة الهاشمية.

قبل الملك عبد الله ذلك، ودعاها للعيش في عمّان، ولكن بعيداً عن الأسرة المالكة. وقد عطف عليها الملك حسين من بعده، الذي تولّى عرش الأردن سنة 1952، وقام بإكرامها واسترداد جميع حقوقها المسلوبة منذ سنة 1936. لا نعرف شيء عن موقفها من مجزرة قصر الرحاب التي أودت بحياة جميع أفراد الأسرة الحاكمة في العراق سنة 1958، وسحل ابن عمها الأمير عبد الإله في شوارع بغداد ومقتل الملك فيصل الثاني.

وعندما أصيبت بمرض السرطان، أرسلها الملك حسين إلى لندن للعلاج، حيث توفيت في إحدى مستشفيات العاصمة البريطانية سنة 1960. نقل جثمانها إلى الأردن لتوارى الثرى في مدافن الأسرة المالكة، ولكن الكثير من أمراء الأسرة لم يغفروا لها فعلتها، وفي مذكراتها المنشورة في لندن سنة 2002، تقول الأميرة بديعة، بنت الملك علي: “إنني أخجل وأستحي من مجرد ذكر اسمها… لأن ما فعلته عزة كان خزياً وعاراً، ليس بحق بيت عمي وحدهم، وإنما بحقنا كأشراف أيضاً.”

***

 

 

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *