أميرة ولدت في دمشق
سامي مروان مبيّض (دمشق، 12 أيار 2020)
توفيت في لندن منذ يومين الأميرة بديعة بنت علي، حفيدة الشريف حسين، التي ولدت في دمشق بتاريخ 20 آذار عام 1920، أي بعد أسبوعين فقط من تولي عمّها الأمير فيصل بن الحسين العرش في سورية. وتوفيت عن عمر ناهز 100 عام في الذكرى المئوية لاستقلال سورية الأول.
تواصلت معها قبل حوالي عشرين سنة عندما كنت طالباً جامعياً، وحدثتني يومها عن أسرتها وعلاقتهم بدمشق. فهي حفيدة ملك وبنت ملك وشقيقة ملكة، وأعمامها فيصل وعبد الله كانوا ملوكاً في سورية والأردن. أما شقيقها الأمير عبد الإله فكان وصياً على عرش العراق.
عرفتني الأميرة من لهجتي الدمشقية قائلة: “أنت من الشّام؟“
“نعم…”
“منين من الشّام؟“
“من حيّ الصالحية.”
“منين من الصالحية؟“
“من حارة حمام المقدم…”
“سقا الله الشّام وأيام الشّام، كانت هذه المدينة العظيمة غالية جداً على قلب عمّي.”
قالت الأميرة يومها إن جدة والدها الشركسية حَلمت ذات يوم أن أحد أبنائها قد وليّ ملكاً على الشام، وفرحت كثيراً عند تحقق الحلم سنة 1920. وقد ظلّت دمشق حاضرة في خاطر عمّها بعد خلعه عن العرش إثر معركة ميسلون الشهيرة، وحاول العودة إليها مراراً ولكن الظروف الدولية لم تسمح بذلك.
وقد ظلّ يذكر دمشق بالخير طوال حياته، نظراً للحفاوة البالغة التي استقبله بها أهل الشّام، فلم يعارضوه قط ولم يرفضوا له طلب طوال فترة حكمه القصير، عكس العراقيين الذي ولّي عليهم بعد مدة.
دمشق أدخلت الملك فيصل إلى عالم السياسة الحقيقي، بمناوراته وخفاياه، وكان لها الفضل في توسيع أفقه المعرفية. دخلها مدينة متعبة ومنكوبة سنة 1918، تصارع الموت وتعاني من ويلات الحرب العالمية الأولى. ولكنه وجد فيها مجتمعاً مُتمدناً وحضارياً للغاية، فيه مدارس حديثة ومعاهد للطب والحقوق، إضافة إلى مسارح ونوادي وصحف يومية وأسواق عريقة.
وصل دمشق قادماً من الصحراء العربية، فرأى في بساتينها أشجار مثمرة وفي أزقتها أعمدة كهرباء تُنير الطرقات ووسائل نقل عام (الترامواي) تُقل الناس إلى عملهم في الصباح، إضافة إلى نظام صرف صحي وسيارات حديثة في الشوارع، يقودها رجال بمنتهى الأناقة، يشبهون باشاوات إسطنبول والقاهرة. كانت المياه وفيرة جداً في بيوت الدمشقيين، ترقص في البحرات المصنوعة من حجر في زمن كان العرب يتصارعون عليها لندرتها في الصحراء. وكانت غوطة دمشق ما زالت في قمّتها، منتزه ربيعي لفيصل وأسرته مع فاكهة لم يعرف مثلها من قبل. في دمشق ذاق فيصل طعم الجانرك والتفاح السكري والدراق والمشمش وحضر أول مسرحية في حياته، في صالة زهرة دمشق بساحة المرجة. وعندما تجول في حارات الشام ماشياً على الأقدام قاصداً الجامع الأموي، أدهشته كمية الورود المتناثرة على الأرض والقادمة من داخل البيوت. كان فيصل قد سمع الكثير عن الجنة ووجدها أخيراً في دمشق.
رحلت الأمير بديعة وظلّت هذه الصور الملونة حاضرة في ذاكرتها حتى النهاية، عن مدينة جميلة وأنيقة كانت قبلةً لجميع العرب، يطيب بها العيش لأهلها وكل من مرّ بها قاصداً الأمان أو العلم أو الرزق…أو الحكم.
***
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!