نزار ومقص الرقيب

 

سامي مروان مبيّض – رصيف 22 (بيروت، 7 آب 2020)

لم يشفع لنزار قباني مرور اثنتين وعشرين سنة على وفاته لحمايته من مقص الرقيب، ليس في مسقط رأسه بدمشق هذه المرة أو في مصر، بل في بيروت، المدينة التي طالما تغنى بها نزار وأغدق عليها شعراً، إعجاباً بتحررها وتقبلها للآخر. ففي 1 أب 2020، أقامت الحكومة اللبنانية حفلاً بمناسبة عيد الجيش، عُزفت فيه أغنية المطربة اللبنانية ماجدة الرومي، “يا بيروت”، وهي من كلمات نزار قباني. ولكن مقص الرقيب حذف الجملة المعروفة “إن الثورة تولد من رحم الأحزان،” خوفاً من تأثيرها على الشارع اللبناني المنتفض منذ 17 تشرين الأول 2019. أثار هذا الحذف حفيظة شريحة واسعة من اللبنانيين، الذين تساءلوا بغضب: متى كان لبنان يُمارس الرقابة بهذا الشكل المستفز وغير الأخلاقي؟

الرقيب السوري سنة 1944

أحدث الشاعر الشاب ضجة رهيبة في المجتمع الدمشقي المحافظ عند صدور ديوانه الأول قالت لي السمراء سنة 1945. حيث تمت محاربته على مستويين، الأول من التقليديين الفصحاء، هواة الشعر العربي القديم، المعترضين على أسلوبه البسيط واستخدامه اللهجة العامية في بعض أشعاره، والثاني من قبل رجال الدين الذين وجدوا في أشعاره فسقاً وفجوراً، بحسب تعبيرهم.

كان الشارع السوري يومها يغلي بهمومه الوطنية، مطالباً بخروج الفرنسيين وبتأسيس جيش وطني، وكانت كل المواهب الشعرية في حينها موجهة نحو القصائد الوطنية العصماء، عندما جاء نزار بأشعاره العاطفية، التي تحدث فيها بإسهاب عن عشق النساء وضرورة تحريرهن من قيد الرجال، واصفاً بدقة أجسادهن وأحلامهن المكبوتة، ما أثار حفيظة الكثير من المشايخ، وكان على رأسهم قاضي دمشق الشهير، الشيخ علي الطنطاوي.

اعترض هؤلاء أولاً أمام أبيه توفيق قباني، أحد رجالات الكتلة الوطنية النافذين في حينها، الذي رفض الانصياع لهم أو التدخل في عمل ابنه، ثم طلبوا من وزير المعارف منير العجلاني، سحب مقدمته لديوان قالت لي السمراء، فرفض ذلك بالمطلق. قاموا بعدها بنقل معركتهم إلى المنابر والصحف، وأخيراً إلى المجلس النيابي.

عند صدور ديوان قالت لي السمراء، كتب الشيخ الطنطاوي ينتقده في مجلة الرسالة قائلاً: “طُبع في دمشق كتاب صغير، زاهي الغلاف ناعم ملفوف بالورق الشفاف الذي تلفّ به عُلب (الشوكولاته) في الأعراس، معقود عليه شريط أحمر كالذي أوجب الفرنسيون أول العهد باحتلالهم الشّام وضعه في خصور (بعضهن) ليمرقن به، في كلام مطبوع على صفة الشعر، فيه أشطار طولها واحد، إذا قستها بالسنتمترات… يشتمل على وصف ما يكون بين الفاسق القارح، والبغي المتمرسة المتوقحة وصفاً واقعياً، لا خيال فيه، لأنّ صاحبه ليس بالأديب الواسع الخيال، بل هو مدلل، غني، عزيز على أبويه، وهو طالب في مدرسة… وقد قرأ كتابه الطلاب في مدارسهم، والطالبات.”

كان الديوان بالفعل ملفوفاً بورق السلوفان، مثل زجاجة عطر أو علبة شوكولاته، وكانت موضوعاته إشكالية، عن الحب والغزليات. أول انتقاد وجه إليه كان خلو الديوان من أي قصيدة وطنية، واستخدام كلمة “ضيا” بدلاً من “ضياء”. قال الطنطاوي ساخراً: “وفي الكتاب تجديد في بحور العروض، يختلط فيه البحر البسيط بالبحر الأبيض المتوسط، وتجديد في قواعد النحو لأن الناس قد ملّوا رفع الفاعل ونصب المفعول، ومضى عليهم ثلاثة آلاف سنة وهم مقيمون عليه، فلم يكن بدّ من هذا التجديد”.

رد الشاعر بعد سنوات طويلة، مستذكراً ما حدث: “فإن دمشق الأربعينيات لم تكن مستعدة أن تتخلى عن حبّة واحدة من مسبحتها لأحد. لذلك جاءت ردود الفعل جارحة… و ذابحة. وكلام الشيخ علي الطنطاوي عن شعري، لم يكن نقداً بالمعنى الحضاري للنقد، وإنما صراخ رجل اشتعلت في ثيابه النار”.

الرقيب المصري ما بين 1948-1978

في نهاية الأربعينيات، عين نزار قباني موظفاً في وزارة الخارجية السورية، التي أوفدته إلى مصر. وصل نزار إلى القاهرة وفي جيبه قصيدة بعنوان “طفولة نهد”، فعرضها على الناقد المصري أنور المعداوي، الذي كتب مقالاً عنها في مجلة الرسالة المحافظة. نُشر المقال، ولكن هيئة التحرير غيرت عنوان القصيدة من “طفولة نهد” إلى “طفولة نهر”. علّق نزار يومها قائلاً: “وبذلك أرضى حسن الزيات، مؤسس مجلة الرسالة، قراء الرسالة المحافظين، ولكنه ذبح اسم كتابي الجميل من الوريد إلى الوريد.”

وقد تتالت مواجهات نزار مع الرقيب المصري بعد أربع وعشرين سنة، عندما كتب عن هزيمة الدول العربية في حرب 1967. جاء في قصيدة “هوامش على دفتر النكسة”:

نريد جيلاً غاضباً..
نريد جيلاً يفلح الآفاق
وينكش التاريخ من جذوره..
وينكش الفكر من الأعماق
نريد جيلاً قادماً..
مختلف الملامح..
لا يغفر الأخطاء.. لا يسامح..
لا ينحني..
لا يعرف النفاق..
نريد جيلاً..
رائداً..
عملاق..

مُنعت قصائده من التداول يومها ولم يُرفع الحظر إلا بواسطة الرئيس المصري جمال عبد الناصر. ولكن منعاً ثانياً حصل سنة 1978، عندما هاجم نزار الرئيس أنور السادات بقصيدة عنوانها اليوميات السرية لبهية المصرية، جاء فيها:

فكيف يا محمد.. يا أنور السادات
من أجل عبرانية عشقتها
تغدر بالأحياء والأموات
وتدعي أن النبي مات
وكيف.. يا.. أنور المأساة
تصبح إسرائيل في طنطا
وفي بنها وفي إيلات

خبز وحشيش وقمر

وفي دمشق، تعرض لهجوم عنيف من النواب المحافظين عند نشر قصيدة خبز وحشيش وقمر عام 1954. طالبوا بإحالته إلى لجنة تأديبية وطرده من وزارة الخارجية. أرسلت القصيدة يومها من لندن حيث كان يعمل نزار، إلى سهيل إدريس، صاحب مجلة الآداب اللبنانية المعروفة بخطها القومي والتحرري، والذي قام بنشرها على الفور، دون أي تدخل أو تعديل.

علّق نزار على الحادثة بالقول: “ما أن صدرت الآداب حتى قُرعت أجراس الخطر في كل عواصم العالم العربي، وطالب المتزمّتون بشنقي وطردي من وزارة الخارجية السورية، لأنني حسب اجتهادهم، خنتُ بلادي، انحرفت عن عقيدتي وأصبحت عميلاً للانتلجانس سيرفيس، لأنني ألصقت على غلاف رسالتي المرسلة إلى الآداب… طابعاً بريطانياً. هكذا بكل بساطة أصبحت عميلاً، لأنني هاجمت الكسالى والمتسولين وأكلة القضامة والبزر وراقصي الزار.”

قام أحد نواب حلب المحافظين، وهو الشيخ مصطفى الزرقا، بتلاوة القصيدة على النواب، فأيده في ذمها كل من محمّد المبارك (عضو لجنة التربية في وزارة المعارف) ونائب حلب عبد الرؤوف أبو طوق، الذي أصبح لاحقاً مراقباً عاماً لحركة الإخوان المسلمين. اتهموا القباني بأنه يفسد الأجيال ويستخدم عبارات جنسية لا تليق بموظف رفيع في الدولة السورية. لم يُدع القباني لحضور الجلسة ودافع عنه وزير المواصلات فاخر الكيالي، ووزير الخارجية خالد العظم، الذي تحدث في البرلمان السوري قائلاً:

“يا حضرات النوّاب الأعزاء، أحب أن أصارحكم بأن وزارة الخارجية السورية فيها نزاران: نزار قباني الموظف، ونزار قباني الشاعر. أما نزار قباني الموظف، فملفّه أمامي، وهو ملف جيد ويثبت أنه من خيرة موظفي هذه الوزارة. أما نزار قباني الشاعر، فقد خلقه الله شاعراً، وأنا كوزير للخارجية لا سلطة لي عليه، ولا على شعره. فإذا كنتم تقولون أنه هجاكم بقصيدة، فيمكنكم أن تهجوه بقصيدة مضادة، وكفى الله المؤمنين شرّ القتال”.

دخل نزار على سفير سورية في لندن، فائز الخوري، أحد أركان الكتلة الوطنية وشقيق الرئيس فارس الخوري، شاكياً له ما حدث في دمشق من هجمة شرسة. فطلب له الخوري فنجان قهوة ومد يده إلى مكتبه وأخرج دفتر شيكات، ثم قال:

“يا عزيزي نزار، إذا كنت متضايقاً مما يقال عن القصيدة وتريد أن تتخلص منها، فأنا فايز الخوري مستعد لأن أشتريها فوراً. فحدد المبلغ الذي تريده، وسوف أوقع لك شيكاً بالمبلغ الذي تريده… على شرط أن تضع اسمي تحت القصيدة!! هدئ أعصابك يا نزار، وثق أن جميع هذه الأصوات النشاز التي تهاجمك سوف تطحنها عجلات الأيام، ولن يبقى في خزانة التاريخ سوى أنت… وقصيدتك”.

علق نزار على كلام السفير بعد مرور سنوات طويلة: “أخجلتني كلمات السفير، فكفكفت دموعي، وخرجت من مكتبه وأنا أعلى قامة… وأكثر كبرياء”.

وقد منعت الكثير من قصائد نزار من الستينيات وحتى وفاته في لندن عام 1998، وشمل المنع كلاً من سورية والعراق ومصر وليبيا والأراضي الفلسطينية، ولكن كلام فائز الخوري ظل حاضراً حتى النهاية، لأن كل الأصوات التي هاجمت نزار في الأمس واليوم، طحنتها بالفعل عجلات الأيام، ولم يبق في خزانة التاريخ سوى نزار قباني.

***

 

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *