مأساة نازلي صبري

 

سامي مروان مبيّض – رصيف 22 (بيروت، 2 كانون الأول 2021)

 

في 29 أيار 1978 صدرت الصحف العربية بخبر صغير ومقتضب، لا يتجاوز بضعة أسطر، عن وفاة الملكة نازلي صبري، أم الملك فاروق، في منفاها الاختياري في الولايات المتحدة الأمريكية. كانت أخبار رئيس مصر في حينها أنور السادات تتصدر الصحف العربية والعالمية في حينها، بعد زيارته التاريخية إلى إسرائيل وقرب إبرام اتفاقية كامب ديفيد الشهيرة في أيلول 1978.

أمّا الملكة نازلي فقد ماتت بعيدة عن مصر التي كانت قد خرجت منها بمحض إرادتها قبل ثلاثة عقود، ودُفنت في المقابر المسيحية بعد أن ارتدت عن دين الإسلام واعتنقت المسيحية، متخذة لنفسها اسم “ماري إليزابيث.”

الكثير من المؤرخين العرب والأجانب لم يهتموا كثيراً بقصتها الرهيبة، وكان التركيز دوماً على معاناة الملك فاروق بعد خلعه عن عرش مصر إبان ثورة الضباط الأحرار سنة 1952. ولكن الدراما الحقيقية كانت في حياة الملكة نازلي، وليس الملك فاروق، الذي أبقى الضباط الأحرار على حياته ولم يقتلوه كما فعل عسكر العراق مع الملك فيصل الثاني، ولم يواجه مصير المذبحة الجماعية التي قضت على حياة نيقولا الثاني وجميع أفراد أسرته إثر الثورة البلشفية في روسيا.

ولم يظهر أي اهتمام عربي بالملكة إلا بعد عرض مسلسل الملك فاروق سنة 2007، الذي كان من إخراج المخرج السوري الراحل حاتم علي وبطولة النجم السوري تيم حسن. وفيه لعبت الممثلة المصرية وفاء عامر دور “نازلي صبري”.

الخروج من مصر

بداية التحول الكبير في حياة نازلي كان قرارها السفر إلى أوروبا لتلقي العلاج من فشل كلوي مزمن سنة 1947. ولقد حصلت على إذن سفر من ابنها الملك فاروق، وسافرت إلى سويسرا وفرنسا برفقة طبيبها الخاص وبناتها، الأميرة فتحية (16 عاماً) والأميرة فائقة (20 عاماً).

ولكنها كانت مصممة أن تكون رحلتها هذه من دون عودة، والدليل أخذها لكل مجوهراتها وما أمكن حمله من النقود، مع أوراق ملكية العقارات والأراضي الشاسعة التي كانت قد ورثتها عن جدها التركي شريف باشا، وزير خارجية محمد علي باشا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وأبيها عبد الرحيم صبري باشا، وزير الزراعة ومحافظ القاهرة في العهد الملكي. وقد تعددت أسباب قرارها الرحيل النهائي عن مصر، وكان أولها كرهها المطلق للعائلة الملكية المصرية، منذ أن دخلتها زوجة شابة للأمير فؤاد، والد فاروق، سنة 1919.

السلطانة نازلي، زوجة فؤاد الأول

لم يكن فؤاد فتى أحلامها وكان يكبرها بستة وعشرين سنة، ولم يكن بنفس المستوى الثقافي التي كانت عليه نازلي، خريجة المدارس الفرنسية الداخلية الخاصة وكوليدج نوتردام الفرنسية في الإسكندرية. وكان زواجها من فؤاد هو الزواج الثاني بالنسبة لها، بعد زواج قصير من ابن عمها التركي خالد صبري، الذي لم يستمر إلا 11 شهراً فقط. وبعدها عاشت مدة في منزل الزعيم المصري سعد زغلول باشا، حيث تعرفت على ابن أخيه بواسطة زوجته صفية زغلول (أم المصريين). فقام الشاب بطلب يدها للزواج وتمت الخطوبة، ولكن علاقتهما لم تتكلل بالزواج بسبب نفيه مع عمه خلال الثورة على الإنكليز.

وكان الأمير فؤاد هو أيضاً خارج من زواج فاشل مع الأميرة شويكار، حفيدة إبراهيم باشا، وبقي عازباً طيلة عشرين سنة، يرفض تكرار التجربة لكثرة النساء المحيطين به، من أجنبيات وتركيات وعربيات. ولكنه أعجب بنازلي عندما رآها للمرة الأولى في دار الأوبرا في القاهرة، وقرر الاقتران بها بهدف أن يكون له ابن يرث من بعده عرش المملكة المصرية، حيث لم يرزق إلا ببنت واحدة فقط من زوجته الأولى.

انتقلت نازلي للعيش في قصر العباسية، وظلّت فيه حتى ولادة فاروق ولي العهد في 11 شباط 1920، حيث انتقلت بعدها إلى قصر القبة. بعد تولّي فؤاد العرش خلفاً للسلطان حسين كامل سنة 1917. أطلق عليها لقب “سلطانة مصر” ثم نالت لقب “ملكة” بعد أن أصبح هو ملكاً سنة 1922، يعرف بالملك فؤاد الأول.

ملكة مصر

ولكن حياة القصور لم تطربها، ولا الألقاب التي أطلقت عليها. فقد شعرت نازلي أنها سجينة في قصر القبة، وأن لا شيء يجمعها مع زوجها إلا رغبته بأن يكون له ولداً من صلبه. وكانت تشكو من تجاهله لها والتعامل معها بقسوة أحياناً وبعنف مفرط، حيث لا يتردد بضربها وإهانتها. وكانت تعتبر نفسها أرقى من الملك فؤاد بكثير وأكثر علماً ومعرفة منه، فهي خريجة المعاهد والجامعات الفرنسية، تتقن عدة لغات، وهو ابن تربية عسكرية، لا يعرف شيء لا عن الثقافة أو الفنون، ولا يجيد التعامل إلا مع الغانيات.

وكان فؤاد يمنعها من ممارسة أي مهام ملكية، ويختصر نشاطاتها على الاستقبالات النسائية داخل القصور، في وقت كانت هي تطمح لدور مجتمعي أوسع، يشبه دور ملكات أوروبا. وقد يكون هذا الأمر ناتج عن غيرة فؤاد من زوجته وإعجاب الأجانب بفصاحتها وبلاغتها، تحديداً بعد سفرهم معاً إلى فرنسا سنة 1927، حيث أصبحت نازلي محط أنظار الصحف الباريسية وصارت أخبارها، لا أخباره، تتصدر الصفحات الأولى.

الملكة الأم

ويُقال إنها لم تذرف ولا دمعة واحدة عند وفاة الملك فؤاد في 28 نيسان 1936، وتولّى ابنها العرش من بعده. كانت نازلي في الثانية والأربعين من عمرها يوم وفاة زوجها، وصار لقبها “الملكة الأم.”

ولكن علاقتها بفاروق لم تكن أفضل من علاقتها بأبيه، وقد ساد بينهما جفاء رهيب. كان فاروق يخجل من تصرفاتها ويحاول منعها من الظهور العلني، معتبراً أنها تشكل حرجاً كبيراً له بسبب نزواتها وغرامياتها، وتحديداً علاقتها المشبوهة مع رئيس الديوان الملكي حسنين باشا. فقد أصبحت هذه القصة حديث الناس في المجتمع القاهري، وقد وضعتها في مواجهة مع الصحافة الصفراء ومع المطربة السورية أسمهان المقيمة في القاهرة، والتي كانت على علاقة غرامية أيضاً مع حسنين باشا.

وفي 19 شباط 1946، قُتل الباشا بحادث سير على كوبري قصر النيل وهو عائد إلى منزله في الدقي، وقيل إنه كان حادثاً مفتعلاً رتب من قبل فاروق. وكان هذا هو الفراق النهائي بينهما. بعدها بأشهر قليلة سافرت نازلي إلى أوروبا لتلقي العلاج، وانقطع التواصل بينها.

حاول الاتصال بها بعد إجراء عملية جراحية في مستشفى مايو كلينيك ولكنها لم تستجب، وبدورها حاولت الاتصال به بعد خلعه عن العرش سنة 1952 ولكنه أغلق سماعة الهاتف في وجهها. وكان فاروق يعتبر أن تصرفات نازلي كانت إحدى أسباب نقمة الناس عليه وعلى حكمه، بعد أن رفع المتظاهرون هتاف: “يا فاروق يا أنتيكا… روج جيب أمّك من أمريكا”. وقد أحزنه كثيراً ما جاء على لسانها في مقابلة صحفية مع جريدة نيويورك تايمز الأمريكية بعد ثورة يوليو سنة 1952، حيث قالت إن انقلاب مصر كان متوقعاً بسبب تصرفات وتجاوزات العائلة الحاكمة.

سنوات المنفى: من بيفرلي هيلز إلى العيش بالإحسان

ولكن قلب الأم لم يقس على فاروق عندما جاءها خبر وفاته في 18 آذار 1965. على الرغم من مرضها الشديد وتقدمها بالعمر، فقد توجهت نازلي مسرعة من مقر إقامتها في لوس أنجلس إلى روما للمشاركة في جنازته. كانت نازلي تعيش يومها في فيلا فخمة في منطقة بيفرلي هيلز، مع نجوم هوليوود والمشاهير، وقد اشترتها من مالها الخاص بقيمة 63 ألف دولار أمريكي.

وقد حملت صهرها رياض غالي مسؤولية ما حل بها من مصائب مالية، وقد انتهى زواجه بالأميرة فتحية بالمحاكم والطلاق، قبل أن يقوم غالي بقتل الأميرة بست رصاصات في الرأس في كانون الأول 1976. هنا أضيفت الوحدة القاتلة والكآبة لحياة الملكة نازلي، إضافة طبعاً للفقر والإفلاس والحزن على ابنتها المغدورة. ولكن ثورتها تبددت وضاعت بسبب صهرها القبطي زوج أصغر بناته، الذي سيطر على نازلي سيطرة كاملة في سنواتها الأخيرة، وأضاع أموالها وأرصدتها في البنوك، ما أدى إلى الإعلان إفلاسها سنة 1974. بيعت فيلا بيفرلي هيلز ومعها منزلها الصيفي في هاواي، كما بيعت مجوهراتها الثمينة في مزاد في دار سوثيبيز للمزادات.

انتقلت الملكة من بيفرلي هيلز إلى أستوديو متواضع في حيّ الفقراء، المعروفة بمنطقة ويست وود، حيث صارت تعتمد على كوبونات الطعام المرسلة من الحكومة الأمريكية (الويل فير) لكي تأكل وتشرب وتعيش. سقطت عنها جميع الألقاب طبعاً وصارت لا تسمع كلمة “يا صاحبة الجلالة” إلا من بعض المصريين الذين باتوا يعطفون عليها ببعض المساعدات.

وبحسب قول الكاتبة راوية راشد، واضعة كتاب مرجعي عن الملكة نازلي: “تبدل ملمس الحرير الذي كانت تنام عليه وهي ملكة مصر إلى خيش، وتبدلت الثياب التي كانت تأتيها خصيصاً من أشهر بيوت الأزياء العالمية إلى جلباب بسيط من الدبلان، لا تملك غيره، وانطفأت الشموع التي كانت تضاء حولها في أي مكان تسير فيه، فلم يبق غير الظلام الذي كان تجلس فيه وحيدة تنتظر الموت”.

قبر الملكة نازلي في أمريكا.

قبر الملكة نازلي في أمريكا.

***

 

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *