عذراً نزار

سامي مروان مبيّض – صحيفة الأهرام (القاهرة، 29 آذار 2023)

ذات يوم، كتب الشاعر الكبير نزار قبّاني:

ولدت فى 21 آذار/مارس عام 1923 فى بيت من بيوت دمشق القديمة، كانت الأرض هى الأخرى فى حالة ولادة، وكان الربيع يستعدّ لفتح حقائبه الخضراء. الأرض وأمّى حملتا فى وقت واحد، ووضعتا فى وقت واحد. هل كان مصادفة يا ترى أن تكون ولادتى فى الفصل الذى تثور الأرض على نفسها، وترمى فيه الأشجار كلّ أثوابها القديمة؟ أم كان مكتوباً عليّ أن أكون كشهر آذار؛ شهر التغير والتحوّلات؟

مرّت هذه الذكرى المئويّة قبل أيّام، دون أيّ نشاط يُذكَر.

كان بودّنا أن تكون مئويّة نزار مختلفة. كنّا نطمح, نحن السوريّين, أن نحتفى به كما احتفينا بألفيّة المتنبّى سنة 1935. يومها جاء الأخطل الصغير إلى حلب للاحتفاء بمن تغنّى به الدهرُ، ثمّ كانت ألفيّة المعرّيّ فى 25 كانون الأوّل (ديسمبر) سنة 1944، التى خصّصت لها الدولة السوريّة أربعين ألف ليرة – وهو رقم كبير يومئذٍ – صُرفت على دعوة الدكتور طه حسين من مصر لإلقاء محاضرة على مدرَّج الجامعة السوريّة، وطباعة كتاب أنيق وضع مقدّمته الشاعر خليل مردم بك. وقد صمَّمنا للمعرّيّ تمثالاً جميلاً نُصب فى معرّة النعمان، ولكنّه دُمِّر قبل عشر سنوات، وقُطِع رأسه فى أثناء الحرب الدائرة فى بلادنا.

تمنّينا أن تكون مئويّة أبى توفيق مثل ألفيّة أبى الطيّب أو أبى العلاء، أو أن نقيم أسبوعاً مخصَّصاً لأشعار نزار كما تقيم مدينة فيينا أسبوعا موسيقيا لموزارت فى ذكرى ميلاده السنويّة.

الشعوب معذورة، فهى تمرّ أحياناً بظروف قاهرة تمنعها من القيام بواجبها تجاه رسّاميها وكتّابها وشعرائها المبدعين. قبل ثلاث سنوات مثلاً، كنّا ننتظر عاماً كاملاً من موسيقى بتهوفن، تُعزَف فى كبرى دور الأوبرا العالميّة فى الذكرى 250 لميلاده، ولكنّ تفشّى وباء كورونا نسف كلّ ذلك، وأُلغيت معظم الحفلات، وبُثّ القليل منها أونلاين فى الحفلات التى أقيمت فى صالات عرض خاوية من الجمهور وقاية من الفيروس. قبلها أُجِّلت معظم النشاطات الأدبيّة المخصَّصة لمئويّة الكبير نجيب محفوظ يوم 11 كانون الأوّل (ديسمبر) 2011 بسبب الاضطرابات الأمنيّة التى عصفت بمصر بعد سقوط الرئيس حسنى مبارك مطلع ذلك العام. وفى سورية كان الزلزال المدمِّر الذى حلّ بنا جميعاً فى 6 شباط الماضي (فبراير).

كان الأمل أن تُقام ندوة فى دار القبّانى بحارات دمشق القديمة، فى مئذنة الشحم، خطّط لها الإعلاميّ الصديق نضال قوشحة، وكان من المفترض أن يشارك فيها فنّانون كبار غنّوا أشعار نزار، مثل نجاة الصغيرة، وماجدة الرومى، وكاظم الساهر، وكتّاب عرفوه عن قرب، وأحبّوه، وعملوا معه، مثل صديقته الأديب الكبيرة كوليت خوري.

ولكن كلّ ذلك لم يحدث، واكتفينا بتمثال أنيق فى مدينة كليفلاند الأمريكية، صمَّمته الفنّانة السوريّة ليلى خورى، وتمثال آخر فى دمشق، للنحّات السوريّ وسيم قطرميز. والتمثالان نُصِبا بعد رحيله، ولكنّه شهد بنفسه إطلاق اسمه على أحد شوارع دمشق الأنيقة سنة 1998، فكتب قائلاً:

شرّفتنى المدينة التى خرجت من رحم ياسمينها، وسَقتنى من ماء ينابيعها، ووسّدتنى على ريش حمائمها، وأطعمتنى فتافيت الذهب، وفتافيت الشعر، وفتافيت الصبابة، وعلّمتنى أبجديّة الكلام الجميل، والطيران الجميل، والتحليق الجميل على أكتاف الدمشقيّات.

أعتقد – ولربّما كنت مخطئاً – أنّه لم تقسُ مدينة على شاعر أحبّها كما قست دمشق على نزار، هكذا هى المدن العظيمة، وهكذا يجب أن تنتهى الملاحم الأسطوريّة، التى يكون بطلاها مدينة عظيمة كدمشق، وشاعراً عظيماً ومتمرّداً كنزار، لن تنتهى فصولها حتّى يموت الشاعر، وتبقى المدينة، فالمدن تبقى دائماً

رحمك الله يا نزار، وكأنّك كنت تصف دمشق حينما قلت:

أحبّك جدّاً…وأعرف أن هواكِ انتحار.. وأنّى حين أكمل دوري.. سيرخى عليّ الستار.. وألقى برأسى على ساعديك.. وأعرف أن لن يجيء النهار.. وأقنع نفسى بأنّ سقوطى.. قتيلاً على شفتيكِ انتصار.”

***
0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *