أعطيت أمر الانسحاب… “وخلاص”

سامي مروان مبيّض – مجلّة المجلّة (لندن، 5 حزيران 2023)

في أواخر شهر مايو /أيار من العام 1967، جمع الرئيس جمال عبد الناصر كبار رجالاته وسأل صديقه المشير عبد الحكيم عامر القائد العام للجيش عن جاهزية الجنود قبيل حرب محتملة مع إسرائيل؟ فوضع عامر يده على رقبته، وقال: “برقبتي يا ريس… كل شيء على أتم استعداد”.

كثيرة هي الروايات التي تُحمّل المشير عامر مسؤولية كاملة عما حدث في مصر يوم 5 يونيو/حزيران 1967، ويعتبر البعض أن في ذلك ظلما للرجل ومبالغة، لأن رئيس الجمهورية هو المسؤول الأول والأخير عن أوضاع الجيش وجهوزيته لخوض أي معركة أو حرب، وليس فقط قائد الجيش.

في الذكرى السادسة والخمسين لهذه الحرب عدنا إلى مذكرات بعض المقربين من مركز صنع القرار المصري في حينها، أملاً أن نجد جوابا للسؤال الكبير: من المسؤول عن النكسة؟

مذكرات أنور السادات 

في مذكراته المنشورة سنة 1978 بعنوان البحث عن الذات، يقول الرئيس أنور السادت: “كنا نعلم أن تسليحنا کامل… وكان سلاحنا بالفعل حينذاك أقوى عشرات المرات من سلاحنا في حرب أكتوبر/تشرين الأول 73، ولذلك عندما سألنا عبد الناصر عن رأينا وافقنا بالإجماع على إغلاق مضايق تيران (أمام السفن الإسرائيلية) ما عدا صدقي سليمان رئيس الوزراء في ذلك الوقت الذي طلب التروي وأن نأخذ في الاعتبار حالتنا الاقتصادية والخطط الطموحة التي لم تستكمل وأكثرها لم ينفذ وخاصة بعد قطع المعونة الأميركية.”

لم يعر عبد الناصر اعتراض صدقي سليمان أي اهتمام فقد كان ميالاً إلى إغلاق المضيق وتم إغلاقه وسحب قوات الطوارئ الدولية. توجه وزير الحربية شمس بدران إلى موسكو وفيها سئل عن رد مصر لو تدخل الأسطول السادس الأميركي. وكان جوابه: “لدينا ما نحتاجه لتدميره!”

توفي شمس بدران في نهاية العام 2020 وهو طبعاً الذي اعتقل مع المشير عامر في أغسطس/آب 1967 وظلّ سجيناً لغاية إطلاق سراحه في مايو/أيار 1974، أي بعد وصول السادات إلى الحكم بقرابة الأربع سنوات. وقد واجه نفس المصير قائد القوات الجوية صدقي محمود الذي عندما سأله عبد الناصر عن جاهزية قواته ومدى قدرتها على الصمود في وجه الطيران الإسرائيلي كان جوابه (بحسب السادات أيضاً): “يا فندم إحنا عاملين حسابنا ولن تزيد الخسارة على عشرة في المئة”.

يحدثنا السادات بلوم شديد على عبد الحكيم عامر وكيف طار فوق سيناء للتفقد، وعندما يكون القائد العام في الجو تصدر الأوامر للصواريخ بالتوقف عن العمل وفي هذه الأثناء ضربت إسرائيل جميع مطارات مصر وطائراتها وهي علي الأرض، يوم 5 يونيو 1967 يعلق السادات بالقول: “وهكذا يمكن أن نقول إن الحرب بدأت وانتهت وعامر في الجو”.

السادات نفسه كان يظن أن النصر قادم لا محالة، وقال:

حسناً… سوف يتعلمون درساً لن ينسوه مدى الحياة. حلقت ذقني وارتديت ملابسي وتوجهت بسيارتي إلى القيادة. كنت قد حضرت إعداد الخطة العسكرية بالكامل وكانت ثقتي بالنصر أكيدة. وصلت القيادة حوالي الساعة الحادية عشرة صباحاّ وشاهدت سيارة السفير الروسي تتقدم سيارتي فقلت لا بد أن السفير قد أتى ليقدم تهانيه (بالنصر). سألت ما الأخبار، فقال بعض الضباط إننا أسقطنا 4 طائرات حتى تلك اللحظة. قلت: عظيم!

الرئيس محمد أنور السادات

الرئيس محمد أنور السادات

ثم كان اللقاء بينه وبين المشير عامر.

دخلت مكتب عبد الحكيم عامر فوجدته واقفا يتطلع حواليه بعينين زائغتين. قلت له: صباح الخير. فلم يرد. أعدت التحية فردها بعد دقيقة. على التو أدركت أن في الأمر شيئا. سألت بعض الموجودين فقالوا إن سلاح الطيران قد ضُرب بأكمله وهو على الأرض. وبعد قليل رأيت جمال عبد الناصر يخرج من الصالون – ثم بدأ عامر يلقي باللوم كله على الأميركان قائلاً إن سلاح الطيران الأميركي هو الذي ضربنا وليست إسرائيل.. ورد عبد الناصر: “أنا لست مستعدا لتصديق هذا الكلام ولا لإصدار بيان رسمي بأن أميركا هي التي اعتدت علينا إلا إذا أتيت إليّ بجناح طائرة واحدة عليها العلامة الأميركية.

ثم يحدثنا السادات كيف رأى أهالي مصر يحتفلون بالنصر المزعوم: “كانت فرحتهم بالنصر تثير في نفسي إحساسا قويا بالإشفاق عليهم والأسى لهم والحنق على من كانوا السبب في خداعهم وخديعة مصر بأكملها. لقد تمنيت على الله وأنا أراقب مواكب النصر هذه، الصادقة الزائفة معاً، أن يصيبني بأزمة قلبية… حتي لا أعيش لأرى حال هذا الشعب الطيب الكريم عندما يفيق على الحقيقة ويعرف أن هذا النصر الذي زينوه لهم ليس إلا كارثة رهيبة نزلت بهم.”

وأخيراً، يضيف السادات أنه حاول الاتصال بالرئيس في يوم 7 يونيو، فوجده في البيت لا في المكتب ولا غرفة العمليات: “الحقيقة أني ذهلت. لماذا لم يتول عبد الناصر القيادة بنفسه يوم 5 يونيو؟ صحيح أننا كنا قد فقدنا الطيران ولكن كان في إمكاننا أن نقف في خط المضايق. ثم لماذا وقف مكتوف الأيدي أمام القرار الذي أصدره عامر للقوات بالانسحاب غرب القناة؟”

عبد اللطيف البغدادي

عبد اللطيف البغدادي

مذكرات عبد اللطيف البغدادي

أما عبد اللطيف البغدادي، وهو أيضاً من المجموعة الأساسية للضباط الأحرار، فقد دوّن في مذكراته ما يلي، يوم 5 يونيو/حزيران 1967: “في الساعة التاسعة إلا الربع سمعت في منزلي طلقات المدفعية المضادة للطائرات وبصورة كثيفة وكذا صوت الانفجارات مكتومة من قنابل الطائرات تأتي من بعيد. أخبرت زوجتي أن الحرب قد قامت وفتحت الراديو لأستمع إلى الأخبار وحوالي الساعة التاسعة والنصف أعلنت الإذاعة أن الطائرات الإسرائيلية تغير على بلادنا وتقوم بضرب جميع مطاراتنا”…

انتقل البغدادي إلى إذاعة إسرائيل وسمع أنهم دمروا 150 طائرة مصرية حتى الآن، وفي الساعة الواحدة ظهراً ذهب إلى مقر القيادة للاجتماع بالمشير عامر الذي نقل له صورة مغايرة تماماً وقال: “أسقطنا حتى الآن 73 طائرة.” وعندما أبلغه الرفاق أن إسرائيل تقول عكس ذلك وأنها دمرت سلاح الجو المصري لم ينفِ عامر الخبر واعترف به قائلاً: “خسرنا أغلب طائراتنا ونحن لا نعرف عدد الطائرات التي لدينا حتى نُقدر مدى الخسارة.”

قام عبد الحكيم من على مكتبه عندما سألناه عما سيفعلونه بعد أن أصبحت قواتنا دون غطاء جوي كاف، واتجه نحو خريطة معلقة على الحائط لصحراء سيناء وحدد لنا مواقع قواتنا المدرعة والمشاة، وبين لنا اطمئنانه الكامل لمركز هذه القوات وأنه وضع في الاعتبار إمكانية الدفاع عن أنفسهم حتى لم يكن هناك غطاء جوي لهم يحميهم من هجمات طائرات العدو.

أثناء وجود البغدادي في مكتب المشير قائد سلاح الجو، وكان يبكي وقد انهارت أعصابه كلياً، قائلاً إن إسرائيل أغارت على مطار الأقصر حيث كانت القيادة العسكرية قد نقلت بعض الطائرات في الصباح من مطار بني سويف، ودمرتها، مستشهداً باتصال هاتفي جاءه من ضابط طيار يُدعى حسني مبارك. اتصل عامر بالمطار وطلب التحدث مع مبارك وسأله عن عدد الطائرات التي دمرت.  وفي المساء عاد البغدادي إلى مكتب المشير عند قدوم عبد الناصر إليه، فقال له عامر إن القوات أسقطت طائرة أميركية في ترعة الإسماعيلية، ولكن الرئيس صحح له الخطأ، وقال إنها إسرائيلية.

ويستطرد البغدادي في الحديث واصفاً هذا الاجتماع:

“ثم سأل جمال عبد الحكيم عن خسائرنا في الطائرات ولكن حكيم تهرب من الإجابة عليه بحجة أن بيان الخسائر لم يصله بعد. وبعد إلحاح من جمال نظر حكيم إلى كشف أمامه على المكتب وقال: “المتبقي لدينا 47 طائرة منها 35 طائرة صالحة للاستعمال والباقي في التصليح. سكت جمال ولم يعلق بشيء وإنما سأله عن الموقف في الجبهة وكان حكيم يتهرب من الرد بأن يشغل نفسه في الرد على التليفون ويعطي أوامر فرعية وصغيرة جداً لا يصلح أن يشغل نفسه بها كقائد عام”…

هنا دخل وزير الحربية شمس بدران ومعه تقرير مفصّل عن سير العمليات. قرأه عبد الناصر وتغيّرت ملامح وجهه: “خان يونس سقطت ورفح محاصرة والاتصال بها مقطوع وغزة تُهاجم”. نظر باستغراب شديد إلى المشير الذي كان لا يزال يشغل نفسه بالاتصالات، وبحسب قول البغدادي: “طلب منه أكثر من مرة أن يتفرغ له ولو لمدة ربع ساعة”.

وفي النهاية وبعد أن فرغ صبر جمال قام ودخل في حجرة النوم الملحقة بمكتب عبد الحكيم. دخلت إلى الحجرة للذهاب إلى دورة المياه وهي في داخلها فوجدت جمال نائماً على السرير وعلى ما يظهر يفكر في المأزق الذي أصبحنا فيه وكيفية الخروج منه. قلت له مجاملاً: إن شاء الله ربنا سيوفقنا…

مذكرات محمود رياض

أمّا وزير الخارجية محمود رياض فيقول في مذكراته إن عبد الناصر اتصل به في صباح 6 يونيو/حزيران وقال إن سلاح الطيران المصري أصيب بشلل كامل، وأنه “لم يعد لديه شك في تواطؤ الولايات المتحدة مع إسرائيل وأنه قرر قطع العلاقات الدبلوماسية معها”.

محمود رياض

محمود رياض

لا يخفي محمود رياض رأيه بأن قطع العلاقات مع أميركا لا يفيد في هذه اللحظة التاريخية، قائلاً: “ناقشت عبد الناصر في هذا القرار على أساس أنه لا يفيدنا رغم قناعتي الشخصية بالتواطؤ الأميركي – الإسرائيلي. ولكن جمال عبد الناصر كان له رأي آخر، وقال: “يجب أن تحس الولايات المتحدة بأنها ستدفع ثمن هذا التواطؤ.”

ويقول:

مبادرة إسرائيل بالهجوم ضدنا وبالذات الضربات الجوية لم يكن مفاجئاً للقيادة العسكرية. فقد ذكر لهم رئيس الجمهورية في اجتماعه بهم يوم 2 حزيران أن معلوماته تفيد باحتمال قيام إسرائيل بالهجوم يوم 5 حزيران وفي هذه الحالة ستكون ضرباتها الأولى موجهة ضد سلاح الطيران المصري. وبالرغم من ذلك فإن القيادة العسكرية لم تتخذ أي إجراء للنزول بالخسائر إلى الحد الأدنى، فلقد كان من الممكن أن لا تتجاوز الخسائر 20 في المئة عن طريق توزيع الطائرات بطريقة أفضل، ووجود مظلة جوية لحماية الطائرات يوم 5 حزيران، علماً بأن هذه المظلة ظلت قائمة في الأيام القليلة السابقة على 5 حزيران.

ويضيف الوزير رياض معلومة مهمة جداً، حول برقية إشارة لاسلكية مشفرة وصلت إلى القاهرة من عجلون في الأردن، تُشير إلى أن الرادار الأردني اكتشف قيام عدد كبير من الطائرات الحربية الإسرائيلية بالتوجه نحو مصر قبل وقوع العدوان “ولكن رموز الشفرة كانت قد تغيرت في ذلك اليوم مما أدى إلى عدم معرفة محتوى البرقية في الوقت المناسب”.

مذكرات محمد فوزي

رئيس أركان حرب القوات المسلحة محمد فوزي يؤكد ما جاء في البرقية الآتية من الأردن، مع عدم الإشارة إن كانت شفرتها فكت أما لا، قبيل بدء العدوان في 5 يونيو. ويؤكد أيضاً أن عبد الناصر قال لضباطه ومنذ 2 يونيو إن العدوان سيكون في 4-5 يونيو، مع تثبيت نسبة الخسائر التي عجز المشير عامر عن تسميتها، حيث يقول محمد فوزي: “تم تدمير طائرات القوات الجوية بنسبة 85 في المئة خلال الساعات الأربع الأولى من بدء الهجوم”.

وقد طلبني المشير بعد ظهر يوم 6 يونيو قائلاً لي: عاوزك تحط لي خطة سريعة لانسحاب القوات من سيناء إلى غرب قناة السويس… أمامك 20 دقيقة فقط.

اجتمع محمد فوزي مع ضباطه وعاد في المهلة المحددة إلى مكتب المشير، مع وضع جدول زمني للانسحاب. وجده “منتظراً واقفاً خلف مكتبه واضعاً إحدى ساقيه على كرسي المكتب ومرتكزاً بذقنه على ساقه الموضوعة فوق الكرسي”. وعندما قرأ المشير خطة انسحاب محمد فوزي صاح بلهجة مصرية: “أربعة أيام وثلاث ليالي يا فوزي! أنا عطيت أمر الانسحاب… خلاص!”.

***
0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *