صانع الفرح السوري
سامي مروان مبيّض – رصيف 22 (بيروت، 2 أيلول 2021)
في منتصف العام 1976، ذهب الفنان السوري الكبير نهاد قلعي إلى مطعم نادي دمشق العائلي، وكان برفقة الصحفي اللبناني جورج إبراهيم خوري. طلب الضيف اللبناني نوعاً معيّناً من السجائر، فنادى نهاد على النادل وطلب منه إحضار التبغ المطلوب. لم يُلبّ النادل الطلب، فزعل نهاد ووبخه وإذ برجل يجلس على طاولة مجاورة ينادي بصوت عالٍ غليظ: “بورظان بدك سيجارة؟ تعال خذ من عندي.” وكلمة “بورظان” كانت نسبة لشخصية حسني البورظان الشهيرة، التي كان يؤديها نهاد قلعي في كل أعماله منذ مطلع الستينيات، وكانت ذائعة الصيت في الوطن العربي.
رد نهاد بغضب: “أنا ما بدي من حدا سيجارة… بعدين أنا مالي اسم معروف تناديني فيه؟”
كان الرجل مخموراً وفاقداً لرشده، فحمل الكرسي وضربه به على رأسه. تختلف الأقاويل عن هوية المعتدي، فالبعض يقول إنه كان ضابطاً في سرايا الدفاع، وآخرون يقولون إنه كان من أهالي صيدنايا. في حديث نهاد قلعي مع مجلة اليقظة في آذار 1983، تذكر هذه الحادثة الأليمة قائلاً: “كان سكران مثلي، لكن الفرق أنه كان بلا أدب”. وعندما سأله الصحفي هاني الحاج عن سبب الهجوم، أجاب: “لأني شتمته وقلت له: إلي اسم يا حمار.”
نُقل نهاد قلعي إلى المستشفى، وقيل إن جرحه كان بسيطاً، فقام بإسقاط حقه في تلك الليلة. وفي اليوم الثاني، زار الطبيب محمد الشامي ليكشف عن الجرح، فطلب الأخير أن يضعه تحت البنج لمعالجة الجرح، ولكنه رفض قائلاً: “ما فيني أتبنج…عندي عرض مسرحية غربة المسا.”
أدى هذا الأمر إلى حدوث جلطة لدى نهاد قلعي، وهو على خشبة المسرح. استغرب الفنانون تأخره بالحوار على المسرح، والثقل الواضح في لسانه وحركته. وفي الكواليس، تعب نهاد وتم توقيف العرض مع طلب حضور طبيب من الجمهور لمعاينته. وعندما تبين له أن تعرض لجلطة، خرج الفنان أسامة الروماني على الصالة والجمهور، وقال إن العرض أُلغي بسبب تعرض نهاد قلعي لوعكة صحية. ثم قال للجمهور إن بإمكانهم استرداد ثمن بطاقة شباك التذاكر، ولكن جميعهم رفضوا.
عولج لاحقاً في دمشق ولندن وتشيكوسلوفاكيا، حيث تم إرساله بأمر من الرئيس حافظ الأسد. وعندما تبين أنه حالته حرجة، أمر الرئيس الأسد بإعادته إلى وظيفته مخرجاً في المسرح القومي، وصار يكتب في مجلّة سامر اللبنانية المخصصة للأطفال، سلسلة كارتونية من بطولة “عمو حسني” (البورظان). وقد ظل يعمل مع مجلّة سامر حتى نهاية الثمانينيات، مع ثلاث محاولات للعودة إلى التمثيل.
كانت الأولى عند تصوير مسرحية غربة الذي خلفه في دور “أبو ريشة” فيها الفنان القدير تيسير السعدي. ولكن، وعند التصوير للعرض التلفزيوني، قرر نهاد قلعي تأدية الدور بنفسه، على الرغم من مرضه الثقيل. وهو يظهر بالنسخة المصورة من غربة مشلولاً في يده، ولكنه وفي ختام العرض وعند ظهوره الأخير على المسرح، تمكن من رفع يده المريضة لمشاركة الناس في تصفيقهم. والمحاولة الثانية كانت في فيلم عندما تغيب الزوجات مع زميله دريد لحام، حيث تم الاتفاق على مرضه بإظهار شخصيته وكأنها مكسورة اليد. أما المحاولة الثالثة والأخيرة فكانت عبر عريس الهنا الذي كان من بطولة نهاد وتأليفه، والذي عُرض على شاشة التلفزيون السوري سنة 1984.
العودة إلى البدايات
في سنة 1928 وفي مدينة زحلة اللبنانية ولد نهاد قلعي، حيث كان والده يعمل رئيساً لمصلحة البرق والبريد. عاد إلى دمشق مع أسرته في الثلاثينيات وأقاموا في جادة شورى في منطقة المهاجرين، ثم انتقلوا إلى جادة الشطّا القريبة. انتسب إلى مدرسة البخاري في المهاجرين، حيث تعلّم فن الخطابة والإلقاء.
وفي حفلة نهاية السنة الدراسية، ألقى قصيدة في إطار تمثيلي بحضور الفنان توفيق العطري، وهو من رواد المسرح في سورية، فأعجب به واقترب منه وقال: “ستكون فناناً”. وقد ظلت هذه القصيدة عزيزة على قلب نهاد، وقام بإدخالها على إحد مشاهد تمثيلية ملح وسكر المتممة لمسلسل صح النوم سنة 1973.
انتقل بعدها نهاد قلعي إلى مدرسة التجهيز الأولى (ثانوية جودت الهاشمي اليوم)، حيث صادق أستاذ مادة الرسم الفنان عبد الوهاب أبو سعود، وهو أيضاً من الجيل المؤسس في المسرح السوري، والفنان الشاب وصفي المالح، الذي أعطاه دوراً صغيراً في مسرحية مجنون ليلى لأمير الشعراء أحمد شوقي، التي كانت تُعرض على مسرح الهبرا في حيّ القصّاع. إضافة للدراسة والتمثيل، عمل مراقباً في معمل المعكرونة بحيّ الميدان ثم ضارباً على الآلة الكاتبة في جامعة دمشق، فموظفاً في وزارة الدفاع ومساعداً لمخلص جمركي.
طريق الفن
انتسب نهاد قلعي إلى نادي “أستوديو البرق الفني” في مبنى العابد، وسط ساحة المرجة، مطلع عام 1946. وفيه قدمت مسرحية “جيشنا السوري” احتفالاً بجلاء الجيش الفرنسي عن سورية وعيد الجلاء الأول، في 17 نيسان 1946، وكان نهاد قلعي دور متواضع فيها. ولكن السلطات اعتقلت بطل المسرحية حسن ستّي، فاضطر نهاد لأن يلعب دوره عشية العرض الأول، في دار سينما عائدة في ساحة الحجاز.
انتقل بعدها إلى النادي الشرقي سنة 1954، الذي شارك نهاد في تأسيسه مع المخرج الشاب خلدون المالح (مخرج معظم روائع أعماله اللاحقة مع دريد لحام). فيه قدم أول دور كوميدي له على خشبة مسرح مدرسة اللاييك، قبل المشاركة في العروض الفنية على مسرح معرض دمشق الدولي.
وفي زمن الوحدة مع مصر، توجه نهاد قلعي إلى القاهرة لتقديم مسرحية “ثمن الحرية” على مسرح الأزبكية في شباط 1959. كانت مسرحية أجنبية لعمانويل روبلزس، وقد عربها الدكتور زهير براقي ونقل أحداثها من فنزويلا إلى أرض الجزائر الثائرة ضد الفرنسيين، وأدخل عليها حوارات عميقة عن القومية العربية.
عُرضت هذه المسرحية في القاهرة لمدة ثلاثة أسابيع، وكانت باللغة العربية الفصحى، وقد أثنى عليها عميد المسرح المصري يوسف بك وهبي. عاد إلى دمشق بعدها حيث كلفته وزارة الثقافة بتأسيس المسرح القومي وإدارته، ليكون مسرحاً رسمياً مدعوماً من حكومة الجمهورية العربية المتحدة. ومنه انتقل إلى التلفزيون العربي السوري عند تأسيسه سنة 1960، في الذكرى الثامنة لقيام ثورة 23 يوليو في مصر.
شخصية حسني البورظان
كان مقر التلفزيون في قمّة جبل قاسيون، وكان يبث في دمشق وحلب فقط ومدة البث لا تتجاوز الساعتين في اليوم الواحد. دُعي للمشاركة في برنامج الإجازة السعيدة مع الفنان الشاب دريد لحام، الذي كان معيداً في جامعة دمشق يومها ومدرساً في وزارة المعارف. التقى مع دريد بواسطة مدير التلفزيون الدكتور صباح قباني، ولم يكن يدور في ذهنه أنهما سيشكلان أشهر ثنائي فني عرفه الوطن العربي.
بعد الإجازة السعيدة قدّما برنامج “سهرة دمشق،” وانضم إليهما الفنان رفيق سبيعي بشخصيته الشهيرة أبو صياح. كان الانسجام الفني بينهما كبيراً، وكان مبنياً على الفكاهة الدمشقية لا على التركيب الفيزيولوجي بين رجل بدين ورجل نحيل، ولا علاقة للثنائي الأمريكي لوريل وهاردي بولادة ثنائي “دريد ونهاد.”
لاقت سهرة دمشق جماهيرية واسعة، وكانت تأليفاً مشتركاً بين دريد ونهاد. كان اسمه في هذا العمل “حسني”، وذات مرة كان يتحدث على الهاتف في مشهد تمثيلي يُبثّ على الهواء مباشرة، فنسي الحوار. تداركاً للموقف ارتجل نهاد الحوار وقال: “أنا حسني… حسني مين؟ وفي تلك اللحظة لمح خلف الكواليس أحد أفراد الفرقة الموسيقية يحمل بورظاناً فقال: “حسني البورظان”. أعجب الجمهور بهذا الاسم التي اخترعته المصادفة، وظلّ مرافقاً نهاد قلعي حتى الممات.
وقد قدم نهاد ودريد منذ عام 1960 وحتى 1976 مجموعة من الأعمال التلفزيونية والمسرحية التي كان لمعظمها الخلود، ومنها مسلسل مقالب غوار الذي كان إنتاجاً لبنانياً سنة 1964. نظراً لنجاحه الباهر في لبنان، تم إنتاج نسخة سورية منه كانت تحمل نفس الاسم، تلاها مسلسل حمام الهنا سنة 1968.
وفي سنة 1961 قدّما مسرحية “عقد اللولو” على مسرح نادي الضباط بدمشق، التي كانت من تأليف دريد وسيناريو نهاد، والتي قام المنتج تحسين القوادري بتحويلها إلى فيلم سينمائي بنفس الاسم، كان من بطولة دريد ونهاد ومعهم النجمة اللبنانية صباح والمطرب السوري فهد بلان.
ومنه انطلق الثنائي للمشاركة في عدة أفلام مصرية ولبنانية، مع صباح وشادية ونبيلة عبيد وسمير غانم وكمال الشناوي وغيرهم من النجوم الكبار، إضافة إلى تجربة يتيمة ومنسية مع المخرج العالمي يوسف شاهين والفنانة فاتن حمامة في فيلم رمال من ذهب سنة 1971.
ولكن النجاح الأكبر الذي أوصلهم إلى النجومية المطلقة كان مسلسل صح النوم، الذي أنتج في مطلع السبعينيات، وله الفضل، بحسب رأي النقاد، في تخليد كل من شارك فيه من نجوم.
كان هذا العمل من تأليف نهاد ويعود له الفضل في صناعة شخصياته الشهيرة، مثل “أبو عنتر” الذي لعب دوره الفنان ناجي جبر و”أبو كلبشة” الذي جسده الفنان عبد اللطيف فتحي و”فطوم حيص بيص” محبوبة حسني البورظان وغوار الطوشة، التي لعبت دورها الفنانة نجاح حفيظ. وقد أنتج منه جزءً ثانياً ليكون أول مسلسل عربي ذي جزأين، ومعها تمثيلية متممة بعنوان ملح وسكر وفيلم سينمائي حمل نفس الاسم.
وكان لهم حضور لافت في المسرح عبر مسرحية جيرك (التي تعرف اليوم باسم مسرح الشوك) سنة 1968، وجاءت بانتقادات لاذعة للحكام العرب بعد هزيمة حرب حزيران سنة 1967.
وكان صلاح جديد، مهندس انقلاب البعث الثاني، يريد اعتقال دريد ونهاد بسبب ما وصف بتطاولهما في هذا العرض، ولكن تدخّلاً من وزير الدفاع حينها، حافظ الأسد، منعه من ذلك. وبعد مسرح الشوك كانت مسرحية قضية وحرامية التي عُرضت في بيروت مع الفنان فيلمون وهبي، تلتها مسرحية ضيعة تشرين التي عرضت سنة 1974، وحققت نجاحاً كبيراً في دول الخليج العربي.
وأخيراً كانت مسرحية غربة، التي لم يشارك نهاد في كتابتها وكانت من تأليف دريد لحام والشاعر محمد الماغوط، مؤلف مسرحية ضيعة تشرين. وقد سقط كما ذكرنا خلالها، وظل متشائماً منها حتى وفاته عن عمر ناهز 65 عاماً في 19 تشرين الأول 1993.
***
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!