تاريخنا العربي: متحف شمع لا نزوره إلا للبحث عن أمجاد الماضي

سامي مروان مبيّض – رصيف 22 (بيروت، 25 آذار 2018)

 

نشرت عدة دراسات في الولايات المتحدة مؤخراً حول تراجع الإقبال على أقسام التاريخ في الجامعات الأميركية، التي تشهد انخفاضاً ملحوظاً في عدد الطلاب، يفوق العشرة بالمئة سنوياً منذ عام 2012. يحاول خبراء التعليم معرفة سبب هذا التراجع، كونه يهدد كل العلوم الإنسانية وليس أقسام التاريخ وحدها. هل هو بسبب عدم توفر فرص عمل لحاملي شهادة في التاريخ؟ أم أن سببه ميل الجيل الجديد للمواد العلمية؟ لا يبدو أنّ السؤال بهذا البساطة، فالأبحاث ما زالت مستمرة لمعرفة الأسباب وقد رصدت لها الحكومة الأميركية مبالغ كبيرة.

وفي نهاية العام الماضي، صدر تقرير أميركي عن أفضل الجامعات في العالم، أظهر أن عشر جامعات تتصدر المشهد العلمي في عالمنا العربي، أربعة منها في السعودية، اثنان في دولة الإمارات، وواحدة في كل من قطر والكويت والأردن ولبنان. جاءت جامعة الملك عبد العزيز السعودية في المرتبة الأولى، ولا يجود فيها قسم تاريخ إنساني أو عالمي فيها، بل فقط تاريخ إسلامي. وفي جامعة الملك سعود، لا يوجد كلية للتاريخ بل فقط قسم “للسياحة والآثار.” وحدها جامعة بيروت الأميركية تمتعت بكلية تاريخ محترمة وعريقة، ولكن موادها تدرس باللغة الإنكليزية، تلتها جامعة الإمارات العربية المتحدة وجامعة قطر، أي أن ثلاث جامعات فقط من أصل العشرة الأوائل تدرس هذه المادة الأساسية

في سورية مثلاً، لا يوجد قسم تاريخ في الجامعات الخاصة كافة، ووحدها الجامعات الحكومية ما زالت تحافظ على هذا الاختصاص. دراسة التاريخ لها أبعاد أوسع في المجتمع، فخريج قسم التاريخ يتيم في سوق العمل، لا تتهافت عليه الشركات الكبرى فور تخرجه من الجامعة، ولا يمكنه تحصيل مدخول محترم، مثل خريج الهندسة المعمارية مثلاً أو الطب وعلوم الكومبيوتر أو العلوم المصرفية. يلاحظ الحال ذاته في كافة الدول العربية، ولكن ذلك لم يشجع تشكيل لجان لدراسة هذا الأمر، أو لرصد ميزانية لإيجاد حلول له. من هنا، يبقى الباب مفتوحاً أمام الحكومات العربية للتعامل مع مادة التاريخ كمادة ترويجية لا أكثر، تُستخدم فقط لتمجيد الماضي، ودغدغة مشاعر الناس وتجييش الشارع، دون أدنى احترام لهذا التاريخ من الناحية العلمية. مقاربة التاريخ بمنظور بحثي لا يهم، لأنه غالباً ما يعيق تأطير أحداثه في صورة وردية تخدم مصالح الأنظمة العربية وتتعارض مع روايتها المؤدلجة للتاريخ. تتعامل معظم المناهج العربية مع التاريخ العربي، بحروبه الداخلية والخارجية، بمذابحه وغزواته وفتنه واغتيالاته، من باب “المؤامرات،” بدلاً من أن يكون كلّ حدث فرصة لطرح فرضيات ندرس من خلالها العلاقات المتشابكة للسلطة والثقافة والهوية.

تاريخ بكادرات الأبيض والأسود

فُرّغت كتب التاريخ من أي تحليل نقدي للأحداث وتمّ تظهير تاريخ المنطقة بكادرات الأبيض والأسود، على طريقة قصص الكاوبوي المشوقة… أبطال وحرميّة… نحن وهم، حيث نكون “نحن” دوماً أصحاب الهمم والحق، و”هم” الأعداء المغتصبون، الأشرار، من الروم والفرس وصولاً إلى الأوروبيين والصهاينة. يتم تصوير الشخصيات العربية دوماً وكأنهم ملائكة وليسوا بشراً…لا يخطئون…ولا حياة خاصة لهم، إلا تلك الصور الوردية والرسمية المنتقاة مما ورد عنهم في الكتب، ابتداء من صدر الإسلام وحتى اليوم. تتجلى هذه الحالة بوضوح في المسلسلات التاريخية التي ظهرت في السنوات الماضية واستندت على قراءة تقليدية لنفس المراجع، عن صلاح الدين الأيوبي مثلاً أو خالد بن الوليد والحجاج والمتنبي، وغيرهم من القامات التاريخية. فظهروا جميعاً على شاشات التلفزيون كبياض الثلج ناصعين، لا نزوات شخصية لهم ولا أطباع خاصة تجعلهم أقرب إلى البشر. ووزعت الألقاب الرنانة عليهم: صقر قريش، عميد الأدب العربي، سندريلا الشاشة، سيدة الغناء العربي، العندليب الأسمر، أديب المؤرخين، شاعر الياسمين، المارد العربي، إلى ما هنالك من كلام جميل حُفر في ذاكرة الناس الجماعية. غدا انتقادهم محرماً، وتحليل ما وراء الصورة النمطية لهم كذلك بات ممنوعاً.

صحيح أن هذا الميل لتعظيم شخصيات التاريخ هو سمة حضارات الشعوب كافة، إلا أنّ الشعب الألماني، على سبيل المثال، قدّس بيسمارك ولكنّه تعامل معه بموضوعية ودرس شخصيته بدقة لكي يستطيع فهمها أكثر. وكذلك فعلت فرنسا مع ديغول، وإنكلترا مع تشرشل، والهند مع غاندي. شعوب تلك البلاد لم تبحث بنفسها بل قرأت فقط ما قدم لها وتعلمته، حيث كانت الرواية كاملة ولم تقتصر فقط على انتصارات وبطولات وأيام حلوة.

هل لدراسة التاريخ دور في مآسي العصر الحديث؟

نتيجة تقديس الماضي كانت صورة في بلادنا مشوهة للتاريخ ولكل شخصياته، تشبه تماثيل الشمع في مضامينها، خلقت أجيالاً عربية مصدومة بالواقع الأليم الذي حلّ بهذه الأمة منذ ضياع فلسطين وصولاً إلى احتلال بغداد ودمار كل من سورية وليبيا والسودان واليمن. كيف لخير أمة أخرجت للناس أن يكون مصيرها أسوداً ومظلماً بهذا الشكل؟ وكيف تحول عالمنا العربي إلى مقصد لمن يود زيارة التاريخ، دون أن يكون لنا حضور في الحاضر والمستقبل؟ هل يمكن أن يكون الطالب العربي قد سأم من هذا التضليل الممنهج، وزهد بالتاريخ قبل دراسته، بعدما نظر حوله إلى حال الأمة، وفقد ثقته بكل ما ورد في كتب التاريخ؟

***

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *