أين أمين دمشق؟

 

سامي مروان مبيّض – صحيفة الوطن (دمشق 23 أيار 2018)

ما حدث في دمشق على مدى ثلاثة أيام متقطعة، من سيول وفيضانات، هو ليس غضباً من اللـه كما حاول البعض تصويره، وإنما مجرد نتيجة طبيعية ومتوقعة لسنوات طويلة من سوء التخطيط والإهمال والفوضى. السيول ليست جديدة على دمشق، وأهلنا يعرفونها جيداً منذ زمن، عندما كانت تصل إلى مدينتهم عبر منافذ وأقنية سفح جبل قاسيون، فتصب في نهر يزيد وعند امتلائه تنزل إلى مستوى نهر تورة، لتسقي بساتين الصالحية وأبو حرش والنيرب (غرب المالكي) ومنطقة ركن الدين، وقد رأينا فيديوهات غرق سياراته أثناء السيل قبل أيام وجرفها مع البشر في مناطق المخالفات والعشوائيات. كنا يومها نصف السيول بالخير لا بالغضب أبداً.

لو قبلنا ما حدث في دمشق على مدى ثلاثة أيام واعتبرناه خطأ أو مفاجأة، حتى في شارع الرئيس شكري القوتلي (طريق المعرض القديم) الذي رمم منذ أقل من عام، ألا يحق لنا أن نسأل وبكل جدية: «من يخطط لدمشق اليوم؟».

من أعضاء اللجنة التي تعطي تراخيص البناء والهدم، وتخطط للصرف الصحي، والتي من المفترض أن يكون أعضاؤها «أمناء» على دمشق؟

كانت المحافظة تعرف بالماضي باسم «أمانة العاصمة» وفي زمن الانتداب، صار اسمها «محافظة مدينة دمشق الممتازة»، لا أعرف من أين جاءت كلمة «ممتازة»، ربما لأنها كانت فعلاً ممتازة، تفوق كل مدن الشرق جمالاً وعراقة وسمعة وبهاء، ففي عام 1956 نالت دمشق لقب «عاصمة الأناقة» من الأمم المتحدة، وصنفت إلى جانب فيينا وباريس وروما.

شتان ما بين اليوم والأمس، بعد كل هذا التشويه البصري والهندسي الذي تعرضت له دمشق، ظناً من القائمين عليها أنهم يلبسونها ثوب الحداثة والجمال. إن قائمة المخالفات التي تفقأ العين تزداد كل يوم، وأقول هنا أني لست عارفاً بالهندسة أو معمارياً لأقرر ذلك، بل مجرد مواطن بسيط، يراقب ويتألم.

يثير انتباهي العدد الكبير من الأكشاك التي باتت تحتل معظم أرصفة المدينة، ومنها كشك عملاق أمام فندق أمية، يتحول يومياً إلى سوبرماركت مخالف، يبيع كل أنواع المهربات ومنها الكحول. كانت مشكلتنا مولدات الكهرباء، وكولابات الحراسة، ثم المقاهي والآن الأكشاك، ليتحول السير على الأقدام في دمشق إلى مهمة شاقة وكريهة، بعدما كانت من أجمل خصائص دمشق.

لو تجاوزنا كل تلك الأمور وتوجهنا باتجاه «شارع الجلاء» (أو شارع أبو رمانة) نجد أن المصيبة تكبر أكثر فأكثر، مع نسف التناظر بين المحلات والمقاهي التي أقحمت في أرقى شوارع العاصمة، من دون أي ضوابط جمالية أو هندسية. سمح لأصحاب تلك المتاجر بتغيير واجهات الأبنية القديمة، بحجة أنها لا تدرج تحت بند «أبنية أثرية» لأن عمرها لا يتجاوز مئة عام، ولكنها قد بلغت السبعين من العمر، فلماذا لا نتعامل معها برفق واحترام؟ والكلام هنا موجه لأصحابها وقاطنيها وللمحافظة في آن واحد.

الحالة نفسها تتفاقم في حي الشعلان، المشيّد في مطلع العشرينيات وقارب مئويته الأولى، والذي ضم يوماً بيوت أرقى عائلات دمشق. فقد تحول اليوم إلى سيرك حقيقي، لا مكان لأهله بين ازدحام المقاهي والبارات والمطاعم. لا أحد يعترض على استرزاق الناس، ولكن يجب أن يتم إلزام تلك المنشآت بهوية المكان وتاريخه، فمن خطط للشعلان منذ مئة عام لم يزرع الأشجار عن عبث، ولم يحدد حجم الأرصفة من فراغ، ولم يكن يهذي عند تحديده لشكل الأبنية وواجهاتها الحجرية وأبوابها ونوافذها.

في ساحة المرجة، حدث ولا حرج، من أكشاك وبائعي ترمس، وقوارض تخرج من تحت الأرض وتتجول في وسط «ساحة الشهداء»، يتجاهلها الناس بسبب الفقر والعوز لمتنفس. أما عن سكان حي الروضة، فقد تحولت حياتهم إلى جحيم، بسبب رائحة النهر الذي كان الدمشقيون يتغنون به ويكتبون فيه القصائد العصماء. نعم، تحول بردى من نعمة إلى نقمة.

سنتوقف عند هذا الحد ولن ندخل في مصائب مدينة دمشق القديمة التي تحتاج إلى مقال متخصص ومنفرد، ابتداء من الأبنية الحديثة التي ظهرت بسوق مدحت باشا، مروراً بشرائط الكهرباء في حي العمارة، والحرائق المتكررة خلف الجامع الأموي، وصولاً إلى خمارات باب شرقي، والتي قال البعض متفاخراً أنها حولت الحي «جميزة دمشق» في إشارة إلى شارع البارات في بيروت.

في زمن ليس ببعيد، كان هناك منصب «أمين عام العاصمة»، ألم يحن الوقت لاستحداثه، ليكون الأمين أميناً على هوية دمشق، لا تتعدى مهامه البت في شكل العمار والطرقات العامة، ومدى التزامها فنياً وجمالياً، بطابع المدينة التاريخي؟ التوصيف بسيط: أن يلتزم الأمين بما جاء في الكتب، لضمان الحفاظ على شكل المدينة وهويتها، من دون الدخول في الأمور الأمنية، وقضايا الصرف، والتعيين والترفيع والتسريح.

ألم يحن الوقت لإنشاء «مجلس أمناء مدينة دمشق» ليكونوا السلطة الرقابية على هوية المدينة، مخولين بمعاقبة كل من يخالفها، سواء كان فرداً أم مؤسسة حكومية أو خاصة، تكون سلطة العقاب لديهم غير قابلة للطعن، وقد تصل إلى حبس كل «حربوق» يعتقد أن المخالفة والاحتيال هما نوع من الشطارة ولو كانا على حساب مدينته.

نحن ندرك أن الحرب على سورية لا تزال قائمة وأن حالة من الفوضى تعم كل المدن، وأن كثيراً من السوريين ضربوا عرض الحائط بكل هذه الاعتبارات، لكننا أيضاً مؤمنون بضرورة الحفاظ على هويتنا ومدننا، فقد حان الوقت لنعمل على ضبط وإزالة كل التشوهات البصرية والمخالفات التي شيدت خلال سنوات الحرب، لنعيد الألق إلى كل المدن السورية، ليس من أجلنا، فقد فاتنا القطار نحن، وإنما من أجل الأجيال القادمة، التي بدأت تدعو علينا.

***