البَحّار العتيق…

 

سامي مروان مبيّض (دمشق 21 آب 2018)

في عام 2002 اتصلت بالروائي الكبير حنّا مينه عند وضع كتابي “فولاذ وحرير” عن أبرز الشخصيات السورية في سنوات القرن العشرين. كان “البحّار العتيق” لطيفاً، دمثاً، ومتواضعاً للغاية. لم يعجبه كلام التمجيد وطلب مني التخفيف منه قدر الإمكان، قائلا: “في ناس أهم مني بكثير.”

حدثني يومها عن جامعة “الفقر الأسود” التي تخرّج منها حافي القدمين، عارياً وجائعاً. حدثني عن البحر وعن الجوع والحرمان، وعن جريدة الإنشاء الدمشقية التي بدا العمل فيها في أربعينيات القرن العشرين.  كان لدمشق موقعاً خاصاً في قبله، دخلها صغيراً وفقيراً منذ سبعين سنة، أحبها وأحبته، وهو يغادرها اليوم كبيراً، شامخاً، وفِي رصيده محبة واحترام جمهور واسع، لا يقدر بثمن.

لذلك قال عنها: “أمنيتي الدائمة أن تنتقل دمشق إلى البحر، أو ينتقل البحر إلى دمشق، أليس هذا حلماً جميلاً؟! السبب أنني مربوط بسلك خفي إلى الغوطة، ومشدود بقلادة ياسمين إلى ليالي دمشق الصيفية الفاتنة، وحارس مؤتمن على جبل قاسيون، ومغرم متيّم ببردى، لذلك أحب فيروز والشاميات.”

منذ أشهر قليلة وصلني مخطوط فيه آخر ما كتبه حنّا مينه، وهي مقدمة مذكرات لوجيه الحفار، صاحب جريدة الإنشاء، عن فترة اعتقاله بسجن المزة أيّام حسني الزعيم.

طلب منّي أن أعلق عليها وكان جوابي: “ما عاذ الله. لا قلم يكتب بعد حنّا مينه، ولا رأي بعد وجيه الحفار. هؤلاء هم كبارنا، وجميعنا صغار جداً أمام إبداعاتهم وأدبهم.”

رحل حنّا مينه عن عالمنا اليوم، تاركاً خلفه فراغ كبير، يشبه الفراغ الذي خلفه رحيل نزار قباني، وسعد الله ونوس، وَعَبَد السلام العجيلي ومحمد الماغوط.

المبدعون لا يموتون أبداً، يرحلون جسداً فقط، وتبقى أعمالهم في الذاكرة الشعبية والأدبية، لعلنا نستفيد منها بحق في يوم من الأيام. هؤلاء أعطونا الكثير ولَم يأخذوا في المقابل إلا شرف الانتماء إلى هذا البلد، وهذا “الكار…” كار الكتابة.

حنّا مينه الجسد وداعاً. لروحك السلام ولذكراك الخلود الأبدي.

***