استعادة لمؤتمر يالطا والحاجة إلى شبيه جديد

 

سامي مروان مبيّض – مجلّة المجلّة (لندن، 24 شباط 2023)

 

ثمة أمورٌ كثيرةٌ يحتاجها عالم اليوم، قد يكون من بينها عقد مؤتمر يالطا جديد.

يتمتّع المؤتمر الدولي الذي عقد بين قادة الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وبريطانيا في يالطا في فبراير/شباط 1945 بسمعة جيدة لدوره في إنهاء الحرب العالمية الثانية. في زمانه كان مؤتمر يالطا خطوة شجاعة باتجاه السلام، ولكنه سلك منحى خطيرا بعد عام 1946.

بدأ المؤتمر بداية غير تقليدية للغاية، حيث جمع تحت سقف واحد الرأسماليين المخلصين والشيوعيين المتشددين، كحلفاء بدل كونهم خصوم وأعداء، وذلك بأمل تحقيق السلام مستدام في العالم. ففي البرهة الواقعة بين 4 و11 فبراير 1945، أعاد المؤتمرون رسم خريطة العالم وهم يدخنون السيجار ويحتسون الويسكي ويتذوّقون الكافيار. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يجتمع فيها الثلاثة الكبار، إذ سبق مؤتمر يالطا مؤتمر طهران في نوفمبر/تشرين ثاني 1943 واعقبه مؤتمر بوتسدام في يوليو/تموز 1945. كما حصل أيضاً اجتماع جانبي بين ونستون تشرشل وجوزيف ستالين في موسكو في أُكتوبر/تشرين أول من عام 1944، غاب عنه فرانكلين روزفلت.

في ذلك الوقت كانت الولايات المتحدة وروسيا دولتين حليفتين قدمتا إلى طاولة المفاوضات بجدولي أعمال متشابكين. روزفلت كان يطمع في الحصول على دعم روسي في حربه مع اليابان، وعلى دعم من ستالين لمشروع لأمم المتحدة التي كانت على وشك الظهور، في وقت كان ستالين يريد الاحتفاظ ببولندا ودول أوروبا الشرقية. خليفتيهما اليوم، جو بايدن وفلاديمير بوتين، على طرفي نقيض بشأن أوكرانيا، ولا يوجد بينهما سوى القليل جداً من القواسم المشتركة، ما يجعل عقد مؤتمر يالطا جديد أمراً عسيراً أفي الوقت الحالي.

اختيار غريب للمكان

كان روزفلت هو الذي بادر في الدعوة لعقد مؤتمر يالطا عام 1945، وكان يريد أن يتم قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر/تشرين ثاني 1944. اقترح بداية أن يُعقد المؤتمر في مالطا أو قبرص أو صقلية أو أثينا أو القدس. واستخدم ستالين حق النقض ضد تلك الأمكنة جميعاً بذريعة أن أطباءه نصحوه بعدم السفر في رحلات طويلة بالطائرة، وأصروا على مكان أقرب إلى الاتحاد السوفيتي. وفي حقيقة الأمر كان مستشاروه الأمنيون، وليس أطباء الكرملين هم الذين اقترحوا أن يلتقي الزعماء في منتجع يالطا على ساحل البحر الأسود في شبه جزيرة القرم. لم يكن ستالين البالغ من العمر السابعة والستين شاباً، لكنه كان يتمتع بصحةٍ جيدة نسبياً. وكذلك حال ونستون تشرشل، الذي كان يبلغ من العمر 71 عاماً سنة 1945. أما روزفلت فكان هو الأصغر بين الثلاثة الكبار إذ كان عمره 63 عاماّ، ولكنه مع ذلك كان يتمتع بصحةٍ أقل من نظيريه الروسي والبريطاني. والحق أن طيرانه فوق المحيط الأطلسي خلال شهر فبراير/شباط البارد أدى إلى تفاقم حالته الصحية وسرّع بوفاته المفاجئ في شهر أبريل/نيسان.

وقد أعطى ستالين لروزفلت شرف استضافة المؤتمر، وجلس الأخير في صدارة جميع الصور التي التقطها مصور البيت الأبيض الرسمي. كما عُقد المؤتمر في مقر الوفد الأميركي، في قصر لفاديا الذي يعود بناءه لمنتصف القرن التاسع عشر والذي كان القيصر نيقولا الثاني يستخدمه كمنتجع صيفي. في حين نزل الوفد البريطاني في قصر فورونتسوف القريب من مكان إقامة روزفلت، وحلّ ستالين في منزله المفضل وهو قصر يوسوربوف الذي تعود ملكيته لأعيان روسيا السابقين، كان الشيوعيون صادروه في عام 1917. وبعد سنوات ندب تشرشل الخضوع للمكان الذي اختاره ستالين لعقد المؤتمر قائلا: “لو أننا أمضينا عشر سنوات في البحث، لما وجدنا مكانا أسوأ في يالطا لعقد المؤتمر.”

مقر انعقاد مؤتمر يالطا سنة 1945.

مقر انعقاد مؤتمر يالطا سنة 1945.

استسلام من دون شروط

كان الهدف الرئيسي من عقد مؤتمر يالطا هو لاتخاذ قرار بشأن ما يجب فعله بألمانيا النازية في الوقت الذي تمّ فيه طيّ صفحة أدولف هتلر إلى الأبد. فجيش ستالين كان يتمركز على بعد 65 كم من بوابات برلين، في حين كان الحلفاء يقاتلون على الحدود الغربية لألمانيا. وكانت فرنسا وبلجيكا قد حُرِّرتا من النازيين، وطُرد النازيون من بولندا ورومانيا وبلغاريا، ولم يعد السؤال المطروح ما إذا كان هتلر سيسقط بل كيف ومتى سيسقط.

طالب الثلاثة الكبار بالاستسلام غير المشروط لألمانيا، وقطعوا عهدا على أنفسهم ليس فقط بنزع سلاح ألمانيا والتخلص من نير النازية، بل بمحاسبتها على الدمار الهائل الذي حلّ في جميع أنحاء العالم، وحملها على دفع تكاليف إعادة الإعمار. وكان من المقرر أن تعقد محاكمة هتلر وكبار ضباطه وإعدامهم لاحقا، بعدها يتم تُقسيم ألمانيا إلى أربع مناطق تكون تحت سيطرة الجيوش الأميركية والبريطانية والسوفياتية والفرنسية. واستُبعِد شارل ديغول على نحوٍ لافت من مؤتمر يالطا – إذ لم تتم دعوته – ووافق ستالين فقط على منحه منطقة نفوذ في قسم من ألمانيا، على أن يتم اقتطاعه من مناطق نفوذ بريطانيا والولايات المتحدة.

بالتوازي مع ذلك أراد روزفلت وتشرشل إنشاء نظام عالمي جديد يرتكز على الأمن الجماعي وحق تقرير المصير لشعوب أوروبا المحررة…لكن كان لدى ستالين خطة أخرى.

خطّة ستالين

كان ستالين يدرك مدى حاجة الولايات المتحدة له في حربها مع اليابان. وقد وافق على الانضمام إلى تلك المعركة بثلاثة شروط، كان أولها عدم التزامه في تلك الحرب إلا بعد هزيمة ألمانيا. وكان الشرط الثاني هو سماح روزفلت وتشرشل له باستعادة الأراضي اليابانية التي فقدتها روسيا خلال الحرب الروسية اليابانية عام 1904. أما ثالث الشروط فكان الاعتراف الرسمي باستقلال منغوليا عن الصين (كانت منغوليا دولة تدور في فلك الاتحاد السوفيتي منذ عام 1924).

وافق روزفلت على جميع شروط ستالين، ثم انتقل إلى البند الثاني في جدول أعماله المتعلق بالأمم المتحدة، والتي كان من المقرر أن تحلّ محلّ عصبة الأمم. فكرة الأمم المتحدة ولدت لدى روزفلت منذ عام 1941، وقد ربط ستالين دخوله في المنظمة الدولية بمنح الاتحاد السوفيتي مكانة دائمة في مجلس الأمن، مع حقّ النقض ضد، كما طالب بعضوية تلقائية لـ 16 دولة تدور في الفلك السوفيتي، ولكنه لم يحصل على قبول سوى دولتين فقط، كانت أحداها أوكرانيا.

وحالما انتهى ستالين من استدرار التنازلات من روزفلت، التفت إلى ونستون تشرشل. كان الزعيم البريطاني يسعى لتوفير عودة حكومة المنفى البولندية إلى بولندا، والتي كانت تتخذ من لندن مقراً لها، وقد طلب من ستالين إجراء انتخابات حرة وديمقراطية ليس فقط في بولندا ولكن في جميع دول أوروبا الشرقية عند تحريرها من نير النازية. التزم ستالين بلغة غاية في الغموض حيال الديمقراطية في أوروبا الشرقية، ولكن رفض التنازل فيما يتعلق ببولندا، قائلاً إن الألمان استخدموا هذا البلد مرتين لغزو بلاده. تعهّد بعدم تكرار ذلك أبداً، ورفض إعادة أجزاء من شرق بولندا التي ضمها الاتحاد السوفياتي في عام 1939، مضيفا أنه لنّ يعترف بالحكومة البولندية في المنفى. وأشار ستالين في ختام حديثه إلى أن تلك المطالب المتعلقة ببولندا كانت، وببساطة مطلقة، غير قابلة للتفاوض بالنسبة له.

وكانت الحرب العالمية الثانية قد اندلعت سنة 1939 بسبب غزو بولندا واختُتمت بالتنازل عن بولندا للاتحاد السوفيتي. وعندما التقى زعماء العالم في المؤتمر التأسيسي للأمم المتحدة في سان فرانسيسكو في أبريل/نيسان 1945 لم تتم دعوة بولندا. ولم تُمنح انتخابات حرة وأصبحت دولة تدور في الفلك السوفيتي، حالها في ذلك حال دول أخرى في أوروبا الشرقية. وباستثناء التشدّق، لم تفعل الولايات المتحدة ولا بريطانيا أي شيء للحؤول دون ذلك.

لكن اللوم هنا يقع على عاتق خلفاء روزفلت وتشرشل، ولا يتحمله الرجلان نفساهما، لأنهما غادرا المشهد بحلول صيف عام 1945، بالوفاة بالنسبة الى الأول وبالهزيمة في الانتخابات بالنسبة الى الثاني، بينما بقي ستالين في مسرح الأحداث لمدة ثماني سنوات أخرى حتى وفاته في عام 1953. توفي روزفلت في أبريل/نيسان 1945 وحلّ محل تشرشل كليمنت أتلي في يوليو/تموز – وهو رجل يتمتع بكل نقاط ضعف تشرشل دون أن يتمتع بأي من نقاط قوته. وفي 1 مارس/آذار 1945، خاطب روزفلت الكونغرس بتفاؤل كبير حول ما تحقق في يالطا، قائلاً: “لقد أتيت من شبه جزيرة القرم بإيمان راسخ أننا قد بدأنا الخطوة الأولى في الطريق المؤدي إلى عالمٍ يسوده السلام”.

***

 

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *