ما بين المهاتما وكيندي

 

سامي مروان مبيّض – صحيفة الأهرام (القاهرة، 9 شباط 2023)

قبل مدّة، راودتني فكرة القيام ببحث علميّ عن جريمة اغتيال فوزي الغزّيّ، واضع دستور سورية الأوّل، الذي قُتِل مسموماً سنة 1929. سألت أحد الأصدقاء: هل يمكن الوصول إلى محاضر جلسات المحكمة؟ أجاب متأسِّفاً: إنّ سجلات المحاكم في سورية تُتلَف بعد مرور عشر سنوات على صدور قرارها القطعيّ، أي أنّ أوراق محكمة فوزي الغزّيّ قد ضاعت منذ سنة 1939.

الرئيس جون كيندي.

الرئيس جون كيندي.

تذكّرت هذه القصّة في شهر كانون الأوّل (ديسمبر) الماضي، حين أفرجت وكالة الاستخبارات الأمريكيّة (CIA) عن ثلاثة عشر ألف وثيقة سرّيّة مُتعلِّقة بجريمة اغتيال الرئيس الأسبق جون كيندي. وتعدّ هذه الوثائق الدفعة الثانية التي يُفرج عنها في عهد الرئيس جو بايدن، وكان سلفه دونالد ترامب قد أفرج عن خمسة عشر ألف وثيقة في فترة حكمه في البيت الأبيض. تقول وكالة الاستخبارات الأمريكيّة إنّها اليوم تكون قد أفرجت عن 97٪ من الوثائق المُتعلِّقة باغتيال كيندي، ولم يبقَ في حوزتها إلّا 3٪ فقط من وثائق تلك القضيّة. وقد طلب الرئيس بايدن الإفصاح عنها قبل شهر أيّار (مايو) المُقبل، في حال خلوّها من أيّة معلومة تهدّد الأمن القوميّ الأمريكيّ.

كلّ ما أُفرِج عنه حتّى الآن لا يُضيف شيئاً جديداً إلى الرواية الأمريكيّة الرسميّة، بأنّ جون كيندي قُتِل على يد لي هارفي أوزوالد بثلاث رصاصات أصابته يوم 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 1963. بحسب قولها، وأنّ الجريمة كانت عملاً فرديّاً ليس لهُ أيّ دوافع سياسيّة، قام بها أوزوالد، ضابط المارينز الماركسيّ المنشقّ الذي عاش سنوات في الاتّحاد السوفيتيّ. كما تؤكّد الرواية الرسميّة أنّ مقتل أوزوالد على يد جاك روبي بعد يومين من مقتل كيندي كان هو أيضاً عملاً انتقاميّاً فرديّاً.

أغلب الظنّ أنّ الحقيقة الكاملة ستبقى مدفونة في الوثائق المتبقّية التي لم يُفرج عنها حتّى الآن، وهى وثائق الـ 3٪ التي تحدّثت عنها وكالة CIA.

أمّا عن السبب الذي دفع الإدارات الأمريكيّة المتعاقبة للإفراج عن ملفّات كيندي فهو فيلم JFK الإشكاليّ للمخرج الشهير أوليفر ستون سنة 1991، الذي تبنّى نظريّة المؤامرة الدوليّة في مقتل كيندي، ما دفع الكونجرس الأمريكيّ آنذاك إلى تبنّى قرار حول ضرورة فتح كلّ الملفّات المتعلّقة بالجريمة، والتي كان من المفترض أن ترى النور كاملة مع حلول شهر تشرين الأوّل من العام 2017، ولكنّ ذلك لم يحدث حتّى اليوم.

لحظة اغتيال الرئيس كيندي سنة 1963.

لحظة اغتيال الرئيس كيندي سنة 1963.

التجربة الهندية

قبل فتح ملفّات كيندي بسنوات، كانت الحكومة الهنديّة قد أمرت بإتلاف أكثر من 150 ألف وثيقة من أرشيفها الوطنيّ، يعتقد بعضهم أنّ فيها شيئاً مُتعلِّقاً بجريمة مقتل المهاتما غاندي سنة 1948. حجّتها كانت أنّه لم يعد من الممكن حفظ هذه الوثائق بشكل جيّد، لأسباب لوجستيّة ومادّيّة. لم يُناقش القرار الحكوميّ في وسائل الإعلام الهنديّة إلاّ بعد تنفيذه، ولم يفصح أحد من المسئولين عن مضمون الوثائق التي أُتلفت. وعندما اعترض نشطاء على قرار الحكومة، جاء الجواب أنّه لا يوجد خوف على ملفّات مقتل غاندي، فهي محفوظة داخل 52 علبة فيها 11 ألف وثيقة سرّيّة، لم يكشف عن مضمونها حتّى اليوم.

جثمان المهاتما غاندي سنة 1948.

جثمان المهاتما غاندي سنة 1948.

وما بين أرشيف الهند وأمريكا يبقى السؤال، ما مصير الجرائم السياسيّة التي وقعت في عالمنا العربيّ، مثل اغتيال فوزي الغزّيّ في سورية سنة 1929 ومحمود فهمي النقراشي باشا في مصر سنة 1948. في أمريكا نعرف أنّ 3% من وثائق كيندي لا تزال محفوظة، وفى الهند هناك 11 ألف وثيقة حول اغتيال غاندي. ولكن، ليس لدينا أيّ علم عن وثائق البلاد العربيّة، هل هي موجودة أصلاً؟ الجواب، هو: لم يعد لها وجود بالمطلق.

فى معظم دول العالم، تحفظ الوثائق الحكوميّة لمدّة تتراوح ما بين 30و50 سنة، إلّا فى إسرائيل التي أمر رئيس وزرائها بنيامين نيتانياهو أن تبقى محفوظة مدّة 70 سنة. وعندما نُشرت بعض الوثائق المتعلِّقة بحرب فلسطين الأولى، وأظهرت حجم التجاوزات والجرائم التي ارتكبتها عصابات الهاجانا بحقّ الشعب الفلسطينيّ، أمرت الحكومة الإسرائيلية بطيّها مُجدَّداً، وأصدرت قراراً بتمديد الحجب من 70 إلى 90 سنة.

بمعنى آخر، فإنّ ملفّات النكبة الكاملة ستبقى محفوظة حتّى سنة 2038، وملفّات النكسة لن تفتح كاملة حتّى سنة 2057. وقد تزامن قرار تمديد الحجب مع الذكرى الخمسين لحرب حزيران 1967، وقامت حكومة نيتانياهو بفتح 150 ألف وثيقة لذرّ الرماد فى العيون، ليس فيها أيّ جديد أو أيّ معلومة تدين إسرائيل، وأبقت آلاف الوثائق السرّيّة المهمّة محجوبة حتّى سنة 2057. عندها سيكون اللاعبون الأساسيّون كلّهم قد ماتوا، وكلّ الشهود أيضاً، مع المعلّقين والمتابعين والضحايا، ولن يتمكّن أحد من محاسبة السياسيّين والعسكريّين أو ملاحقتهم قضائيّاً. ولن يتمكّن أحد يومئذٍ من التشكيك فى الرواية الإسرائيليّة، لأنّ بعض العرب…وبكلّ أسف…ليس لديهم أرشيف يعودون إليه.

***

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *