ارفعوا الرايات الحمراء

سامي مروان مبيّض (دمشق، 18 كانون الأول 2022)

 

في بدايات القرن الماضي شُكِّل مجلسٌ لتبسيط الإملاء في مدينة نيويورك، هدفه إزالة بعض القواعد الشاذّة في اللغة الإنكليزيّة لكي تُكتب الكلمات في المستقبل بالطريقة نفسها التي تُلفظ بها. قال القائمون عليه: إنّهم بذلك يحمون اللغة الإنكليزيّة من الاندثار، ويخرجونها “من المتاحف” إلى الحياة اليوميّة، لتكون عابرة للأجيال.

رأى المجلس المدعوم يومها من قبل الرئيس الأميركيّ ثيودور روزفلت ضرورة تبسيط 700 كلمة، مثل كلمة island (جزيرة) التي قرّروا أن تكتب iland ، وكلمة cat (قطّة) التي أوصوا بأن تصبح kat .

نُشرت القائمة الأوّليّة من المفردات في آذار 1906، وصدّق القائمة عدد كبير من الجهابذة، مثل رئيس جامعة كولومبيا، ورئيس تحرير قاموس ويبستر، والكاتب الشهير مارك توين. أُعجب الرئيس روزفلت بمقترحاتهم لدرجة أنّه أمر الجهات الحكوميّة كافّة بتطبيقها، ممّا عدّه الكثير من التقليديّين، وتحديداً في بريطانيا، حرباً شرسة على اللغة الإنكليزيّة.

زوجة الرئيس الأميركيّ سخرت من مشروعه، وعلّقت ممازحة إنّ روزفلت أقرّ تلك التعديلات لأنّه كان يجد صعوبة شخصيّة في الإملاء، ويبحث عن مخرج لنفسه من هذا المأزق. رفضت المحكمة العليا الأميركيّة تطبيق التعديلات، وطالب الكونغرس بطيّ توصيات الرئيس، ممّا أدّى إلى حلّ المجلس وإنهاء التجربة.

ومن هنا نصل إلى محاولات مماثلة حصلت في سورية، باءت كلّها بالفشل، كان هدفها التمكين للغة العربيّة بالطريقة نفسها التي طالب بها روزفلت.

في عام 1944 مثلاً، أوصى “العلّامة” ساطع الحصري، وهو أوّل وزير للمعارف في سورية، بإلغاء تدريس اللغات الأجنبيّة في الصفوف الابتدائيّة، لكيلا تشوّش على حصص اللغة العربيّة. وطالب بأن تُدرَّس لغة أجنبيّة واحدة فقط، إمّا الفرنسيّة وإمّا الإنكليزيّة، ابتداء من الصفّ السادس، ومنع الطلاب من دراسة اللغتين معاً. وجاء في توصياته أن تكون حصّة اللغة الأجنبيّة ساعة واحدة في الأسبوع فقط، انتقاماً من تاريخ فرنسا في سورية.

طبعاً، كانت نتيجة هذا القرار تراجعاً حادّاً في مستوى الطلّاب، وتحديداً الراغبين بإكمال دراستهم الجامعيّة خارج البلاد. بعد ثلاث سنوات، طُوي قرار ساطع الحصريّ كما طُوي قرار روزفلت من قبله، واعترفت وزارة المعارف أنّها أخطأت التقدير والتصرّف، ولكنّ هذا الاعتراف لم يمنع من إحراق الكتب الفرنسيّة والإنكليزيّة الموجودة في مدارس دمشق؛ من روايات ومعاجم ومؤلَّفات علميّة، يوم خروج آخر جنديّ فرنسيّ من سورية عام 1946.

أمسكوا اللغة العربيّة من ذيلها، بدلاً من جذورها وأساساتها، وحاربوا القشور بدلاً من التمكين للجوهر. فعلى سبيل المثال: عندما كتب نزار قبّاني: “حتّى فساتيني التي أهملتُها…” جُنّ جنون التقليديّين، وعدّوا أنّ في كلامه تشويهاً للشعر العربيّ، وتطاولاً على اللغة العربيّة. لم يقبلوه مجدّداً ثائراً، بل عدّوه مخرّباً، علماً أنّ التجديد مطلوب وصحّيّ، بدليل أنّ شعر نزار وصل إلى أقاصي المعمورة، وتحوّل، بحسب تعبيره، إلى “رغيف خبز ساخن يتخاطفهُ الناس على الأفران.” لم يهدّد نزار قبّاني اللغة العربيّة يوماً بل أطال عمرها، ما هدّدها البارحة وما يزال يهدّدها اليوم هو ذلك الكسل والإهمال، والفلتان العلميّ، والتراخي في الحفاظ على هُويّتها.

محاولات فاشلة

تتالت المحاولات السوريّة البائسة للحفاظ على اللغة، دون الاعتراف بأنّ المشكلة ليست في اللغات الأجنبيّة، ولا في اللغة العربيّة بحدّ ذاتها، بل في مستوى التعليم، وسويّة المدرّسين، ورواتبهم المزرية.

منذ قرابة العشرين سنة، أُجبرت المتاجر في دمشق على عدم استعمال أيّ اسم أجنبيّ دون تعريبه، ظنّاً بأنّ ذلك سوف يحمي لغة القرآن الكريم، وطُرح موضوع فرض اللغة العربيّة الفصحى على المسلسلات الدراميّة، حتّى على غير التاريخيّة منها.

والنتيجة كانت، أنّه وبالرغم من كلّ “التوصيات” والاحتفالات بيوم اللغة العربيّة، صارت اللهجة العاميّة سائدة، لا في المسلسلات المعاصرة فحسب، بل في نشرات الأخبار أيضاً، وفي البرامج الحواريّة، وفي خطابات الوزراء والمسؤولين أيضاً.

تجارب عربيّة

الحال من بعضه في معظم الدول العربيّة. فقد أجبر ذلك بعضها على سنّ قوانين لحماية اللغة العربيّة، كما حصل في مصر عام 2008، والأردن عام 2015، وقطر عام 2019. بقي معظم تلك القوانين حبراً على ورق، مع العلم أنّ القانون الأردنيّ مثلاً، يعاقب المخالفين بغرامة ماليّة تتراوح ما بين ألف وثلاثة آلاف دينار، وكذلك الأمر في قطر، حيث تصل الغرامة إلى 50 ألف ريال، أو ما يعادل 14 ألف دولار.

في سورية لم يصدر أيّ قرار مماثل، وليس هناك غرامة على من يشوّهها، عامداً كان أو جاهلاً، لا في دوائر الحكومة ولا في أروقة الإعلام الرسميّ أو الخاصّ، ثمّ جاءت الطامّة الكبرى في وسائل التواصل الاجتماعيّ، وتحديداً “الفيسبوك،” الذي قضى على ما بقي من احترام ومكانة كانتا موجودتين للغة العربيّة، فأصبح الناس، وحتّى كبار المثقّفين والشخصيّات “القدوة،” يتجنّبون الفصحى في كتاباتهم.

نحن لسنا مُعقّدين، ولا مُتطرّفين، ولا نطالب بإلزام الناس بكلمة “الرائي” بدلاً من التلفزيون، ولا بالحاسوب بدلاً من “الكومبيوتر.” ولكن علينا أن نذكّر أنّنا دخلنا في مرحلة الخطر، وأن نرفع راياتنا الحمراء، تحذيراً وتنبيهاً من مستقبل ثقافيّ بشع، لا نريده لأولادنا.

***

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *