أوراق الحلّاق الدمشقي…من باب بريد إلى دبلن

 

سامي مروان مبيّض (بيروت، 20 تموز 2020)

 

تزامناً مع مهنتي بالكتابة، أقوم بجمع الكتب النفسية والنادرة المتعلقة بتاريخ مدينة دمشق. وكلما اقتنيت مكتبة قديمة، وجدت بين رفوفها نسخة من كتاب البديري الحلّاق حوادث دمشق اليومية، المطبوع في القاهرة أيام الوحدة مع مصر. الكتاب غني عن التعريف طبعاً، وهو عبارة عن مذكرات حلّاق دمشقي من القرن الثامن عشر، عاش في حارة التعديل بالقنوات وعمل حلاقاً في باب بريد، حيث سمع أخبار الناس وقام بتدوينها. المذكرات تحكي قصة دمشق في زمن آل العظم، وفيها تفاصيل دقيقة عن الوفيات والجرائم، جنون أسعار المواد التموينية ومظالم الحكام. على الرغم من انتقاداته اللاسعة لكثير من الأخطاء والممارسات السائدة في عصره وزمانه، يبقى البديري وفيّاً لدمشق حتى الصفحة الأخيرة من كتابه، مدافعاً عنها وعن أهلها، وتحديداً البسطاء منهم.

مخطوط مذكرات الحلاق  

تنتهي مذكرات البديري الحلّاق عام 1761، ولا نعرف إن كان ذلك بسبب وفاة المؤلف أو توقفه عن الكتابة. هناك روايتان عن مصير المخطوط من بعده، وكيف وصل إلى يد الشيخ محمد سعيد القاسمي، الذي قام بتحقيقه بعد قرابة المئة عام على غياب البديري. الرواية الأولى تقول إن القاسمي وجد المخطوط في دكان أحد بائعي العطورات، حيث كانت أوراقه تُستخدم للصرّ، فقام بشرائها وأخذها إلى منزله. والرواية الثانية تفيد بأنه حصل عليها من صديقه الشيخ طاهر الجزائري، الذي اقتناها من مزاد مخطوطات قديمة في الجامع الأموي، بقيمة 300 قرش. كلتا الروايتين تفتقدان إلى إثبات، ولكن المؤكد أن القاسمي قام بتحقيق النص قبل وفاته سنة 1900، وظلّت مسودة البديري طيّ النسيان حتى قيام جمهورية الوحدة، عندما قام المؤرخ المصري أحمد عزت عبد الكريم بتحقيقها مرة ثانية ونشرها سنة 1959.

ولكن ومنذ سنوات قليلة، صدر بحث بالغ الأهمية للباحثة دانا سجدي، من كلية بوستون الأميركية، فيه تحليل عميق لمذكرات البديري وإشارة إلى أن النسخة المطبوعة (نسخة القاسمي) تختلف عن المخطوط الأصلي الذي وضعه البديري. تقول الدكتورة سجدي في كتابها إن القاسمي أنزل نفسه مكان المؤلف، وأدخل مفردات وعبارات لم تكن موجودة في النص الأصلي، كما أنه غيّر اسم المؤلف، من ابن بدير إلى البديري، وهو الاسم الشائع اليوم. وتشير سجدي إلى أن نسخة من مذكرات البديري، أو ابن بدير، موجودة اليوم في مدينة دبلن الإيرلندية.

الطريق إلى دبلن

ولكوني فضولي ومهتم بتاريخ مدينتي، تواصلت مع المكتبة الإيرلندية، وبالفعل وجدت فيها مخطوط البديري تحت الرقم Ar 3551، تبين أن ملكية المخطوط تعود إلى صاحب المكتبة، وهو رجل أعمال أميركي يدعى ألفرد شستر بيتي، أحد أهم جامعي النفائس العالمية، الذي عاش سنواته الأخيرة في دبلن، وكانت مقتنياته تضم، إضافة لأوراق البديري، مفروشات الملكة ماري أنطوانيت، ونسخاً نادرة جداً من القرآن الكريم، وتبين في سجلات المكتبة أنه اقتنى مخطوط البديري من القاهرة سنة 1928.

تعمقت أكثر بالبحث، وتبين أن هذا الرجل الأميركي قام بشراء مخطوط البديري من تاجر يهودي يُدعى إبراهيم شلومو يهوذا، الذي كان يملك محلاً لبيع الكتب القديمة في القاهرة، بالقرب من جامع الأزهر. ولمن لا يعرف يهوذا، فهو أكبر جامع مخطوطات في العصر الحديث، درس في ستراسبورغ وعاش بين مصر، فلسطين، بريطانيا والولايات المتحدة، وقد باع الكثير من المخطوطات الإسلامية إلى الجيش الأميركي، إضافة إلى أكثر من 5300 مخطوط إلى جامعة برنستون. وقد وصل القاهرة سنة 1906، أي أن المخطوط جاء معه من دمشق في نفس تلك الفترة.

يبقى السؤال: كيف وصل مخطوط حلّاق باب بريد إلى يد إبراهيم يهوذا؟ كيف خرج من دمشق إلى القاهرة؟ هل سُرق أم أن أحد الدمشقيين باعه لليهودي الذي قام بدوره ببيعه إلى الرجل الأميركي؟ ويبدو من هوامش النص الموجود في إيرلندا أن نسخة دبلن هي نسخة القاسمي المنسوخة عن الأصل، وليست نسخة البديري الموجودة حتى اليوم في مكتبة الأسد، وقد يكون القاسمي نسخ المخطوط بيده عندما قام بتحقيقه، وأعاد الأصل إلى طاهر الجزائري الذي قام بوضعه في المكتبة الظاهرية، قبل سنوات طويلة من نقل معظم محتوياتها إلى مكتبة الأسد

هذا التسلسل جعلني أفكر بمصير آلاف المخطوطات الدمشقية المبعثرة حول العالم. ومن المخطوطات المفقودة مثلاً، مذكرات أبو سعود الحسيبي، نقيب أشراف دمشق في مطلع القرن العشرين، وأحد الشهود العيان على أحداث عام 1860. المؤرخ اللبناني كمال صليبي، حقق أوراق الحسيبي داخل المكتبة الظاهرية، سنة 1968، حيث كانت موجودة تحت الرقم 4668، وجاء بعده الدكتور سهيل زكار ليعيد نشرها في كتاب صادر سنة 1982، ولكن أين هو المخطوط الأصلي؟

الجواب ببساطة: غير موجود، لأنه دُمّر يوم انهيار أحد جدران المكتبة العادلية بدمشق قبل ثلاثة عقود، والله أعلم.

***

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *