أطباء الغلابة

 

سامي مروان مبيّض (دمشق، 30 تموز 2020)

 

مصر كانت ومنذ القدم متفوقة في صناعة الأبطال، الشعبيين منهم والرسميين، وآخر هؤلاء كان الدكتور الزاهد محمّد مشالي، أو “طبيب الغلابة،” الذي توفي منذ أيام قليلة. حقق شهرة واسعة لمعاينته الفقراء بأجور رمزية منذ عام 1975، وقد نعاه شيخ الأزهر وحاكم دبي، كما نعته طنطا والإسكندرية والقاهرة.

ونحن أيضاً في سورية كان عندنا الكثير من أطباء الغلابة، لم يحظوا بنفس الاهتمام، نذكر منهم الدكتور وجيه البارودي (1906-1996) والدكتور عبد السلام العجيلي (1918-2006). عُرف البارودي بشعره والعجيلي بأدبه، وكلاهما كان سباقاً في افتتاح عيادة طبية في مدينته. افتتحت عيادة البارودي في حماة سنة 1932 والعجيلي في الرقة عام 1945.

كلاهما كان يُعالج الفقراء من دون مقابل. كبار السن في الرقة وحماة يذكرونهم  جيداً: كيف كانوا يخرجون من بيوتهم في ساعات متأخرة من الليل، بالبرد والرعد، لزيارة المرضى في الأرياف وإجراء معاينات طبية وعمليات جراحية دقيقة، لا يتقاضون عليها سوى الدعاء. طبعاً، كلاهما كان من عائلة ميسورة، ما سهّل عليه عمل الخير، وكلاهما لُقب بأبو الفقراء في مدينته. وأخيراً، كلاهما كان يعمل الخير بصمت مُطبق، ولم تظهر أفعالهم الإنسانية إلى العلن إلا بعد وفاتهم.

وكلاهما أيضاً رفض مغادرة مدينته وظلّ يعمل فيها ومن أجلها حتى الممات. الدكتور العجيلي وكما هو معروف قد تقلّد مناصب وزارية في زمن الانفصال (1961-1963)، ما أجبره على ترك الرقة مؤقتاً والانتقال إلى دمشق. عرض عليه رئيس الجمهورية الدكتور ناظم القدسي منصب سفير سورية في فرنسا ولكنه رفض قائلاً: “لا أرغب أن أكون سفيراً في باريس بل في مدينة أخرى.” سأله القدسي مستغرباً: “أي مدينة تريد يا دكتور؟” فأجاب: “الرقة…أريد أن أبقى مع أهلي وناسي.”

عندما كان العجيلي والبارودي على مقاعد الدراسة، كانت الطبابة في سورية تُعرف بمهنة النبلاء، لا يمتهنها إلا أرفع الناس خُلقاً وأدباً وعِلماً. إضافة لمهاراتهم الطبية عرف هؤلاء ببراعتهم الشعرية والأدبية، وكانوا محيطين بكافة علوم عصرهم. كان شرط القبول في كلية الطب بالجامعة السورية يومها الحصول على شهادة حسن سلوك، إضافة لإثبات ملاءة مالية لكي يتمكن الطبيب من معاينة الفقراء من دون أي مقابل مادي. مجرد رد مريض لأنه لا يمتلك ثمن الدواء والعلاج كان كفيلاً بتحطيم سمعة أي طبيب في سورية، مهما علي شأنه وذاع صيته بين الناس. وكان الجيل المؤسس من الأطباء السوريين يخصصون يومين في الأسبوع لمعاينة الفقراء مجاناً وإجراء العمليات المجانية في المستشفى الوطني (المعروف أيضاً بمشفى الغرباء). لم يُستثن أحد من هذا العرف، حتى عمداء كلية الطب ورؤساء الجامعة السورية وجميعهم تقدموا إلى مستوصفات الهلال الأحمر خلال حروب عام 1948-1973، وقدموا خبرتهم وعملهم للمصابين من جنود ومدنيين، علماً أن الكثير منهم كان قد بلغ سنّ التقاعد.

وتغيرت الدنيا من يومها، وتغيرت سورية التي عرفها وأحبها العجيلي والبارودي. وصرنا نسمع أن الطبيب الفلاني هو “رحماني” لأن أجوره منطقية، علماً أن أجور الأطباء في زمن مضى كانت كلها “رحمانية،” وذلك بسبب أخلاق المهنة ومراقبة مديرية الصحة، التي تحولت في عام الجلاء إلى وزارة الصحة والإسعاف العام. ولو أفرج عن أرشيف تلك الوزارة (في حال لا يزال موجوداً) لرأينا عدد كبير جداً من “أطباء الغلابة” في كل مدينة وقرية سورية، لا يختلفون أبداً عن طبيب مصر الراحل محمّد مشالي.

***

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *