أزياء الزعماء في سورية

سامي مروان مبيّض – رصيف 22 (بيروت، 21 نيسان 2022)

بعد مبايعة الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على سورية، سنة 1920، سُئل في إحدى الجلسات إن كان يُفضل القبعة الأجنبية أم الطربوش.  لم يجاهر ضد الطربوش، لأن عدداً كبيراً من رجالات حكمه كانوا لا يزالون يرتدونه، واكتفى بالقول إنه يُفضل القبعة “الفرنجية”. صاح أحد الحضور تملقاً: “الناس على دين ملوكهم.”

شاع هذا الحديث في الأوساط الدمشقية، ما شجّع الكثير من الناس على خلع طرابيشهم لصالح القبعة الغربية. فيصل نفسه لم يرتدِ الطربوش، بل كان يتفاخر بلباسه العربي، وهو أمير هاشمي قادم من مكة المكرمة، وكان يُهدي كبار زواره الأجانب حطّة عقال وكوفية، تأكيداً على هويته العربية.

كان المجتمع السورية يومها في أوج انقلابه على كل الموروثات العثمانية، فقد ألغيت في زمن فيصل الألقاب التركية، وبدأت عملية تعريب، شملت المدارس والجيش والدواوين، وصلت حتى إلى أسماء الشوارع. تحوّل شارع “الرشادية” (نسبة للسلطان محمد رشاد الخامس) إلى شارع خالد بن الوليد، وأصبح شارع “جمال باشا” يُعرف بشارع النصر. كان الطربوش أحد تلك الموروثات، الذي كان يرتديه علية القوم، من بشاوات وأفندية وضباط، مع الأعيان طبعاً وكبار التجّار.

أثارت عبارة فيصل عن القبعة والطربوش جدلاً داخل المجتمع السوري، بين مؤيد لـ”الفرجنة” من جهة، ومعارضاً لها، من الشيوخ المطالبين بالحفاظ على الزيّ العربي التقليدي، كم جهة ثانية.

أبناء دمشق المتعلمون في الغرب كانوا ينظرون إلى اللباس العربي على أنه متخلف ويجب استبداله بربطة عنق وبدلة أجنبية وقبعة. وقد كثرت انتقاداتهم لرفاقهم العسكريين من جيش الشريف حسين، والد فيصل، الذين ظلّوا بعد تحرير دمشق يرتدون الحطة العربية على رأسهم، كما كانوا يلبسون في زمن الثورة العربية.

أدى كلام فيصل إلى تغيير غطاء رأس العسكريين، واستُبدلت الكوفية والعقال بخوذة عسكرية، سمّيت بـ”الفيصلية”، التي ظهر بها وزير الحربية يوسف العظمة في معركة ميسلون سنة 1920. وكان أول من اعتمرها هو فيصل نفسه، ليقول للمدنيين من أنصاره السوريين، إنه لا يختلف عنهم بشيء. وعند زيارته لندن بعد أشهر من عزله عن عرش سورية، ظهر فيصل ببدلة أجنبية أمام الملك جورج الخامس. كانت هذه هي المرة الأولى التي يخلع به فيصل ثوبه العربي، وبرر تخليه عنه قائلاً إنه تعبير عن حزنه العميق على مغادرة مُلكه في سورية.

الملك فيصل بالخوذة الفيصلية.

شكل اللباس انعكاساً للأجواء السياسية في تاريخ سورية الحديث، وهو لم يدرس بشكل علمي بعد. قبل العهد الفيصلي، كان العاديون من أهالي دمشق يلبسون قنبازاً من الحرير، وعلى وسطه زنار حريري أو قطني، ومن فوقه سترة طويلة تصل إلى الركب، تسمى “ساكو”، وعلى رأسهم طربوش، يكون “سادة” للموظفين الحكوميين والأعيان، أو عليه لفة من الأغباني (اللام ليف).

كانت لفّة المشايخ من القماش الأبيض، وأهل التصوّف كانوا يلفّونها على طاقية بلاد طربوش، أمّا المنسوبين لآل البيت فكانت لفّتهم خضراء، أما الفلاحيون والعمال فكانوا يلبسون الشروال، وهذا أحد أخطاء المسلسل الشهير باب الحارة، الذي أظهر ابن زعيم الحارة بالشروال، في وقت كان أولاد الزعماء لا يلبسون إلا القنباز.

أدبيات الطربوش

وكان للطربوش أدبيات وعادات متعارف عليها بين الناس، لا يضع “طب” على الطاولة لأن في ذلك فال شؤم (الطربوش الطب كان يضع فوق نعش الميت). وكان لا أحد من الأعيان يخرج من داره دون حطة رأس، سواء كانت حطة أو كوفية أو طربوش أو قبعة.

عندما عاد الرئيس فارس الخوري من المؤتمر التأسيس للأمم المتحدة في مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية، خرج الأهالي لاستقباله، يتقدمهم رئيس الجمهورية شكري القوتلي. عند خروجه إلى سلّم الطائرة، طلب الخوري من ابنه سهيل إعطاءه الطربوش، ولكن تبين أن طربوشه لم يكن معه، فظهر الخوري أمام الناس عاري الرأس، مخالفاً لأدبيات ذلك الزمان، فما كان من الشيخ محمد بهجت البيطار، وهو من أشهر علماء الشّام، إلا أن خلع عمامته وألبسها للخوري، قائلاً: “أنت أولى بها”.

في زمن الانتداب

كل رؤساء سورية في زمن الانتداب الفرنسي كانوا يرتدون الطرابيش، وكان تاج الدين الحسني (1941-1943)، ولكونه من المشايخ، يضع حوله لفّه بيضاء للتعبير من هويته المختلفة. وعندما حاول زعيم دمشق فخري البارودي إيجاد تنظيم شبه عسكري لشباب دمشق، اختار له لباساً موحّداً حديدي اللون، وسماه القمصان الحديدية، إعجاباً بالقمصان السوداء التي ظهرت في إيطاليا الفاشية، والقمصان البنية في ألمانية النازية. صار البارودي لا يظهر ببدلته الأجنبية أو بطربوشه التركي، بل بلباس  القمصان الحديدية، ليكون مثالاً لشباب دمشق في انضباطهم وتطورهم البدني والفكري، مثل قمصان هتلر وموسوليني.

رئيس الجمهورية تاج الدين الحسني بالطربوش ولفة المشايخ.

رئيس الجمهورية تاج الدين الحسني بالطربوش ولفة المشايخ.

الطربوش بعد سنة 1946

أول من ظهر عاري الرأس تماماً من رؤساء سورية في مرحلة الاستقلال بعد سنة 1946 كان حسني الزعيم، مهندس الانقلاب الأول. ظلّ يرتدي بذته العسكرية من يوم الانقلاب وحتى توليه الرئاسة رسمياً في صيف العام 1949. وكان الزعيم قد منع ارتداء الطربوش، باعتباره عادة قديمة بالية يجب التخلص منها، تماماً كما فعل كمال أتاتورك من قبله سنة 1925، خلال عملية “عصرنة” المجتمع التركية.

عاد الطربوش إلى التداول مع سقوط حكم الزعيم وعودة الحياة المدنية إلى سورية عند انتخاب هاشم الأتاسي رئيساً للجمهورية، ثم غاب عن المشهد السياسي مجدداً في عهد الرئيس اللواء فوزي سلو (1951-1953) والرئيس أديب الشيشكلي (1953-1954). بعدها عاد الأتاسي إلى الحكم لإكمال ولايته الدستورية، مرتدياً طربوشه المعروف، وظلّ يرتديه بشكل منتظم لغاية انتهاء ولايته. وفي مراسيم تسليم الحكم للرئيس المنتخب، ظهر خليفته، شكري القوتلي، بلا طربوش، بعد أن اعتاد عليه السوريون معه خلال رئاسته الأولى (1943-1949).

آخر من ارتدى الطربوش من رؤساء الحكومات كان صبري العسلي (1956-1958)، وقد سقط من بعدها بشكل تدريجي، ولكن بعض الناس حافظوا عليه من باب الأناقة والوقار، مثل رئيس غرفة تجارة دمشق بدر الدين الشلّاح، الذي ظل يلبسه حتى وفاته عام 1999، كما ظلّ يلبسه المنشد الشهير توفيق المنجد، حتى وفاته سنة 1998.

في مرحلة الستينيات، غابت حتى البدلة الأجنبية عن بعض السياسيين، باعتبارها من مخلفات “الإمبريالية والاستعمار”، ودرجت عدة “موضات” مستلهمة من ثورة اليسار العالمي، والتي أصبحت زياً للعمال والفلاحيين والسياسيين الاشتراكيين، مثل لباس السفاري، بيريه غيفارا وجاكيت الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، وخلال إحدى زياراته لقصر الإليزيه في باريس، حاول رئيس وزراء سورية، يوسف زعيّن، الدخول على الرئيس الفرنسي شارل ديغول مرتدياً الجاكيت الماوي، ولكن إدارة البروتوكول منعته. حاول إقناعهم بأن هذا اللباس هو رمز لليسار العالمي، ومتعارف عليه في الكثير من دول العالم، ولكنهم أصرّوا على ربطة عنق وبدلة لمقابلة رئيس فرنسا.

 

 

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *