ماذا يعني أن تكون كيسنجر؟
سامي مروان مبيض – مجلّة المجلّة (لندن، 27 أيار 2023)
قلّة قليلة من السياسيين في تاريخ الولايات المتحدة الحديث ظلوا على صلة وثيقة بالسياسة العالمية، بعد قرابة خمسين عاماً من تركهم لمناصبهم. وأقلّ منهم من بلغ المئة من العمر ولا يزال يتمتع بقدراتٍ عقلية مثالية. هنري كيسنجر هو دون أدنى ريب واحد من هؤلاء القلائل.
وقد يجد الأميركيون الشباب صعوبة في تذكر كيف كان دوايت أيزنهاور يبدو، ولن يكون بوسعهم تسمية وزير خارجيته أو وزراء خارجية رؤساء أحدث منه كجيمي كارتر. ولكن قلّة منهم فقط سيخفقون في تسمية وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر – عملاق القرن العشرين- الذي سيبلغ 100 عام يوم 27 مايو/أيار 2023. وحتى العام الماضي كان كيسنجر واحداً من اثنين من المعمرين في السياسة الأميركية، والثاني هو صديقه وخلفه، جورج شولتز، الذي توفي عن عمر ناهز المئة في عام 2021. ومع رحيل شولتز، أصبح كيسنجر أكبر وزير خارجية على قيد الحياة في الولايات المتحدة، والباقي الوحيد الذي على قيد الحياة من إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون.
وُلد هاينز كيسنجر لعائلة يهودية فرّت من الاضطهاد في ألمانيا النازية، وانتقل إلى الولايات المتحدة في سن الخامسة عشرة حيث عمل في مصنع لفِرَش الحلاقة قبل أن يخدم في فرقة المشاة 84 التابعة للجيش الأميركي التاسع خلال الحرب العالمية الثانية. كُرّم لاحقاً لمشاركته في الهجوم على خط دفاع سيغفريند الألماني في نوفمبر/تشرين الثاني 1944، الذي بني لمواجهة خط ماجينو الفرنسي. وعند تسريحه من الجيش، تقدّم بطلب إلى كل من جامعتي برينستون وكولومبيا، ولكنهما رفضتا طلبه، فانتهى به المطاف في جامعة هارفارد بعد حصوله على منحة دراسية. كان معجباً بأعمال الموسوعي الألماني والمؤرخ أوزوالد شبنغلر، والذي كان صاحب نظرية التشابه بين الثقافات والحضارات البشرية والكيانات الحيوية، والقائل أن لكل منها عمر محدود، متوقع وحتمي المسار.
في رسالة الدكتوراه تناول كيسنجر دبلوماسيةَ المستشار النمساوي كليمنتس فون ميتيرنيخ بعد حروب نابليون – وهي الدبلوماسية التي أعادت توازن القوى في أوروبا بعد عقود من الحروب والثورات. ومن المحتمل أن إعجابه بميتيرنيخ ساهم في تشكيل صورة السياسي العالمي الشهير الذي هو عليه اليوم، ولقد حاول بالفعل السير على خطى ميتيرنيخ، ونجح في ذلك نجاحاً باهراً.
من الحياة الأكاديمية إلى السياسة
بدأ كيسنجر حياته المهنية بالتدريس في جامعة هارفارد، حيث حظي بشهرة واسعة بوصفه أحد الأكاديميين البارزين ومحرراً لمجلة “كونفلونس” (Confluence). وعلى الرغم من انتمائه القوي للحزب الجمهوري، فإنه كان يقدم المشورة بين الفينة ولأخرى لمجلس الأمن القومي في ظلّ رئاسة رئيسين ديمقراطيين، هما: جون كيندي وليندون جونسون. ولم يُسمع به كثيرون خارج حدود الحرم الجامعي، باستثناء حاكم نيويورك نيلسون روكفلر، المرشح الجمهوري للرئاسة مرتين والذي كان يستعد للترشح للمرة الثالثة والأخيرة عام 1968. وكان روكفلر حفيد مؤسس شركة ستاندرد أويل وقد خدم مع روزفلت، وترومان وأيزنهاور. عيّن روكفلر كيسنجر مستشارا له، وعلى الرغم من أن هذا لم يساعده على الفوز بالرئاسة، إلا أنهما حافظا على صداقة مدى الحياة.
كيسنجر ينخرط في صفوف الحكومة
فاز ريتشارد نيكسون على منافسه روكفلر بفارق بسيط أدى اليمين الدستوري في يناير/كانون الثاني منذ عام 1969. وفي اليوم نفسه عيّن كيسنجر مستشاراً للأمن القومي. وبعد مضي أربع سنوات، جاءت تسميته وزيراً للخارجية في سبتمبر/أيلول من عام 1973، مع لاحتفاظه بوظيفته الأصلية مستشارا للأمن القومي، مع نيكسون أولاً ثم في عهد خليفته الرئيس جيرالد فورد. وظل كيسنجر هو الشخص الوحيد في التاريخ الذي يشغل كلا المنصبين في وقت واحد.
بعد سنوات عديدة كتب كيسنجر متذكراً تلك اللحظة من حياته: “أتيت إلى أميركا كلاجئ من الاضطهاد النازي. كانت أميركا حلماً بعيد المنال عندما كنت صغيراً إذ تفشى كل من عدم التسامح والكراهية في ظلّ الحكم الشمولي. وها أنذا اليوم وقد أعطيت مسؤولية مساعدة بلدي الجديد. ولقد شعرت بعاطفة جياشة، ولم أشعر حتى بأدنى رهبة”.
حتى ذلك الحين كانت القاعدة الأساسية في سياسات الحرب الباردة هي الاحتواء القوي والفعّال للشيوعية والاتحاد السوفياتي، في كل مكان وبكل الوسائل المتاحة. اتُبعت هذه السياسة منذ أواخر الأربعينات، وكانت نتيجتها انغماس الولايات المتحدة في حروب دامية في كل من كوريا وفيتنام، أدّت إلى خسائر فادحة في الأرواح البشرية. نهج كيسنجر كان مختلفاً، وكان هدفه توازن القوى بين اللاعبين الرئيسيين في النظام الدولي، أو ما عُرف بالدبلوماسية الثلاثية نسبة للولايات المتحدة والصين والاتحاد السوفيتي. ركزت سياسة كيسنجر على الانخراط مع المعسكر الشرقي لتحريض الدول الشيوعية وخلق تنافس وتنافر فيما بينها، سيصب طبعاً في مصلحة الولايات المتحدة. ويعود الفضل لكيسنجر إلى انفراج سياسي مع الاتحاد السوفياتي وإقامة علاقات دبلوماسية مع الصين وإنهاء التدخل الأميركي في فيتنام، إضافة للتفاوض على إنهاء الحرب العربية الإسرائيلية في أكتوبر/تشرين الأول من عام 1973.
الصين- فيتنام
وفي عام 1971، سافر كيسنجر تحت غطاء من السرية إلى الصين للتفاوض بشأن زيارة الرئيس نيكسون إلى بكين عام 1972 وهي الزيارة التي حظيت بتغطية إعلامية واسعة. وكانت حرب فيتنام أحد التحديات الكبرى في حياته المهنية، وبصفته أكبر استراتيجي في إدارة نيكسون، أراد كيسنجر إخراج الولايات المتحدة من الصراع مع الحفاظ على ما يشبه الاستقرار في جنوب شرقي آسيا. أجرى محادثات سرية مع المسؤولين الفيتناميين الشماليين، ما جعله يفوز بجائزة نوبل للسلام عام 1973.
وقد سعت الاتفاقات إلى تأمين تسوية سلمية قابلة للحياة، وتسهيل انسحاب القوات الأميركية من فيتنام. وكان سوء تعامل كيسنجر السابق مع الحرب والقصف السري لشرق كمبوديا في مارس/آذار 1969 ومايو/أيار 1970 ، قد هدد بتقويض إرثه باعتباره رجل الحكمة بواشنطن. اتُهم بارتكاب جرائم حرب لكنه تمكن دائما من إدارة الأذن الصمّاء، قائلاً إن كل ما فعله كان في مصلحة أميركا العليا.
دبلوماسية المكوك
لكن إرثه داخل الشرق الأوسط يختلف على نحو لافت للنظر عن إرثه في فيتنام. فهذا هو المكان الذي مارس فيه ببراعة سياسة “دبلوماسية المكوك” التي تحظى بالشهرة الآن، حيث تفاوض على اتفاقيات فك الاشتباك بين مصر وإسرائيل من جهة، وبين إسرائيل وسورية من جهة أخرى. وقد أرسى جهدُه الأساسَ لاتفاقيات كامب ديفيد التاريخية التي وُقعت عام 1978، وهو الأمر الذي دفع الرئيس المصري أنور السادات للتعليق بالتالي: “كرجل دولة، أنا معجب به حقا”. كان إضعاف النفوذ السوفياتي في العالم العربي من النتائج الجانبية الرئيسة لانخراطه في الشرق الأوسط. ولكن حتى هنا، لم ينجُ من النقد. فقد أدى نهجه إلى مزيد من التجزئة في العالم العربي المنقسم بالفعل، ودق إسفينا بين القاهرة والمسارات العربية الأخرى، ومهّد الطريق للحرب الأهلية اللبنانية، وأفضى إلى بروز الإسلاميين المتطرفين، وأدى في نهاية المطاف إلى اغتيال السادات عام 1981.
ومع ذلك، يلقى تركيز هنري كيسنجر على الاستقرار الاستراتيجي وموازنة ديناميكيات القوة صدى لدى صانعي السياسة اليوم، أولئك الذين يصارعون تحديات القرن الحادي والعشرين، حيث يستلزم ظهور قوى عالمية جديدة ونمو التهديدات العابرة للحدود والصراعات المعقدةِ مقارباتٍ دبلوماسيةً دقيقة تعترف بحقائق النظام العالمي الجديد. ولا يفتأ النقاد يثيرون المخاوف بشأن الآثار الأخلاقية لنهجه في السياسة الواقعية، متهمين إياه بإعطاء الأولوية للاستقرار على حساب حقوق الإنسان والقيم الديمقراطية. وفي يونيو/حزيران 1974، توقف كيسنجر في النمسا أثناء توجهه إلى الشرق الأوسط حيث أدلى بمؤتمر صحافي قائلا: “عندما تتم كتابة التاريخ، قد يتذكر البعض أنني ربما أنقذت بعض الأرواح وربما يمكن لبعض الأمهات أن يشعرن براحة أكثر، لكنني أترك هذا الأمر لحكم التاريخ. ولكن ما لا أتركه للتاريخ هو مناقشة شرفي العام”.
بعد الحكومة
ترك كيسنجر الحكومة في يناير/كانون الثاني 1977، من دون أن يتأثر بقضية ووترغيت التي أسقطت إدارة نيكسون، وبقي يخدم في عهد خليفته جيرالد فورد. وأمضى العامين التاليين في التدريس في جامعة جورجتاون أثناء كتابة أول مجلدين من مذكراته الجذابة سنوات البيت الأبيض، والتي صدرت عام 1979. وقد أهدى الكتاب لصديقه القديم نيلسون روكفلر، الذي توفي في يناير/كانون الثاني. وحققت مذكراته نجاحاً فورياً، فأعقبها بعد ثلاث سنوات أخرى بواحدٍ من أكثر الكتب مبيعاً، سنوات الاضطرابات، حول ولاية نيكسون الثانية والمُجهضة. وعلى خلاف كثير من الموظفين والمسؤولين السابقين الذين أداروا ظهورهم لنيكسون، وصفه كيسنجر بثقة بأنه “وطني عظيم… قام بأعمال شجاعة بارزة”.
لقد اعتمد كيسنجر على نطاق اتصالاته الدولية الواسع، واعتمد تأثيره الشخصي على كل دولة منها تقريبا عندما أسس شركة كيسنجر أسوشيتس في عام 1982، والتي أصبحت واحدة من أنجح شركات الاستشارات الجيوسياسية الدولية. وفي عام 1994، وبينما كان لا يزال يعمل على المجلد الثالث من مذكراته، كتب كتابه العمدة الدبلوماسية، وهذه المرة رسّخ نفسه مؤرخاً وباحثاً، بدلاً من مجرد وزير خارجية سابق كغيره.
في كتابه الدبلوماسية، تناول مهنة رجال الدولة الذين سبقوه على المسرح العالمي، كالألماني أوتو فون بسمارك، والكاردينال الفرنسي ريشيليو، وتشرشل في بريطانيا العظمى. وبعد خمس سنوات، خرج بالمجلد الثالث والأخير من مذكراته بعنوان سنوات التجديد، الذي يغطي من خلاله خدمَته في عهد فورد في البيت الأبيض. وقد أجزل فيه الثناء مرة أخرى لنيكسون، ونسب إليه الفضل في تمهيد الطريق لانتصار أميركا اللاحق في الحرب الباردة.
وفي عام 2000، تم تعيين كيسنجر عضواً فخرياً في لجنة فرعية خاصة باللجنة الأولمبية الدولية، قبل أن يتم اختياره خلفاً لرئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر كمستشار لكلية وليام وماري حتى عام 2005. وبعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 المزدوجة في مدينة نيويورك، عينه الرئيس جورج بوش الابن رئيسا للجنة 11 سبتمبر/أيلول، وهو المنصب الذي استقال منه في ديسمبر/كانون الأول 2002 عندما طُلب منه الكشف عن أسماء عملائه في شركة كيسنجر أسوشيتس، خشية احتمال تضارب المصالح. وبموجب قوانين الضغط الأميركية، لم يُسمح لشركته بالكشف عن هوية عملائها، على الرغم من أن عددا من عملائها كانوا معروفين بالفعل ولكن لا علاقة لهم بـأحداث 11 سبتمبر/أيلول، مثل كوكا كولا، وإريكسون، وفيات، وفولفو.
كيسنجر مرشحا لمنصب الرئيس
منذ منتصف السبعينات بدأ الأميركيون يلهون بفكرة ترشيح كيسنجر للرئاسة، وبدأت المقالات التي تؤيد ذلك الظهور في الصحف الأميركية. لم يعر كيسنجر أي اهتمامٍ جاد لمثل هذه المقالات نظرا لأن المادة الثانية من القسم الأول من دستور الولايات المتحدة تتطلب أن يكون الرئيس قد ولد مواطنا أميركيا لم يكتسب الجنسية اكتساباً. وهذا لا ينطبق عليه نظرا لأنه ولد في ألمانيا وقد جاء إلى الولايات المتحدة حين كان في فترة المراهقة. وذهب عضو الكونغرس الديمقراطي عن نيويورك جوناثان بينغهام إلى حد تقديم مشروع قانون يدعو إلى تعديل دستوري يجعل حالات كحالة كيسنجر مؤَهَلة للرئاسة. تساءل عضو الكونغرس بينغهام: “لماذا يجب منع مواطن يتمتع بموهبة الدكتور كيسنجر من الرئاسة؟”، ثم أردف قائلاً: “الأهم من ذلك، لماذا يُحرم الشعب الأميركي من حق انتخاب كيسنجر في أي منصب؟”.
كيسنجر اليوم
لم يوهن العمر من عزم هنري كيسنجر. فعلى الرغم من أنه يعاني من العمى في إحدى عينيه ويعاني من صعوبة في السمع، فإنه لا يزال يذهب للعمل يوميا في مكتبه الكائن في الطابق 33 من مبنى آرت ديكو في وسط مدينة مانهاتن، وقد تحدث إلى شبكة CBS News قبل أيام قليلة من عيد ميلاده المائة. وسُئل كيسنجر: “لو أن أحد مساعديك هنا أمسك بسماعة الهاتف واتصل هاتفياً بكين وقال: يود الدكتور كيسنجر التحدث مع الرئيس شي. فهل سيتلقى شي مكالمتك؟”.
أجاب قائلا: “ثمة فرصة كبيرة لأن يتلقى مكالمتي، نعم”.
“والرئيس الروسي فلاديمير بوتين؟”.
“ربما، نعم”.
“إذا أتى إليك رئيس وقال: هنري، هل تسافر إلى موسكو وتتحدث إلى بوتين؟”.
“أنا أميل إلى القيام بذلك، نعم”. لكنه أردف قائلا: “سأكون مستشاراً ولن أكون شخصاً نشطاً”، وأضاف: “ثمة بعض المزايا في النضج. وهناك مخاطر تتأتى عن الإرهاق ومحدودية القدرة على العمل”.
وقبل أيام من ذلك، أجرى كيسنجر مقابلة أخرى، قال فيها إنه يجب على الصين والولايات المتحدة تعلم كيفية العيش معاً، ومنحهما أقل من عشر سنوات لتحقيق هذا الهدف أو عليهما الانخراط في “مجابهةٍ بين القوى العظمى”. وفي فبراير/شباط 2022، نصح بعدم انضمام أوكرانيا إلى عضوية الناتو، قائلا إن توسع الكتلة باتجاه الشرق يهدد حزام الأمن الروسي، ولكنه غيّر موقفه في منتصف عام 2023 قائلا: “من الأفضل أن تكون أوكرانيا في الناتو من أجل سلامة أوروبا”.
وفي السنوات الأخيرة، أصبح كيسنجر مولعاً إلى حد الهوس بموضوع الذكاء الاصطناعي، وهو الأمر النادر جداً بالنسبة لشخصٍ في عمره. في عام 2021 تعاون مع اثنين من المؤلفين المشاركين في كتاب بعنوان عصر الذكاء الاصطناعي ومستقبلنا البشري. وقد أثبت هذا الكتاب على وجه الخصوص أن لا شيء يوهن من عزيمة هنري كيسنجر، أو لا شيء يحد من فهمه للتكنولوجيا والسياسة والحرب والعالم المتغير باستمرار من حوله.
***
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!