لماذا غابت الابتسامة عن وجوه أجدادنا؟
سامي مروان مبيّض – جريدة الأهرام (القاهرة، 7 حزيران 2023)
فى دمشق قديما كان هناك مصوّر محترف فى طريق الصالحيّة يُدعى جورج درزى، انفرد بتصوير الزعماء فى أثناء المناسبات الوطنيّة منذ ثلاثينيّات القرن العشرين، وحتّى مطلع الستينيّات. كان أهالى دمشق يقفون أمام واجهة محلّه الشهير، على مقربة من سينما أمير، لمشاهدة صوره التى تعكس أخبار السياسة عموماً، والانقلابات العسكريّة خصوصاً. معظم مصوّرى تلك المرحلة من السوريّين ركّزوا على توثيق الآثار والبيوت الدمشقيّة، كانت مهنة التصوير بالنسبة لهم مجرَّد هواية، قبل أن يجعلها جورج درزى مهنة مربحة مادّيّاً عندما تعاقد مع الناشر اللبنانيّ كامل مروة لنشر صوره فى جريدة الحياة البيروتيّة. وبالعودة إلى أرشيفه الغنيّ نجد أنّ الابتسامة كانت تغيب عن وجوه معظم الشخصيّات، يظهر ذلك جليّاً فى صور تلك المرحلة، وفى صدر أيّ منزل سوريّ يحتوى صورة ربّ الأسرة التى تحرص الأجيال على تناقلها ، فما سبب هذا العبوس فى صور الزعماء والوجهاء والتجّار فى النصف الأوّل من القرن العشرين؟
بعضهم كان يعتقد أنّ الابتسامة العريضة غير لائقة لأنّها تعكس طراوة فى المظهر، وخفّة فى المقام، وأنّ على رجال السياسة بالعموم أن يظهروا دوماً بمظهر جادّ ورصين، فيه وقار كبير وهيبة. انظروا إلى كلّ صور الملك فيصل الأوّل مثلاً، وستجدونه دوماً فى منتهى الجدّيّة، وهذا ما يفسّر السعادة العارمة التى انتابت زوجة الرئيس الأمريكى وودرو ويلسون عندما تمكّنت من التقاط صورة نادرة لفيصل وهو يبتسم فى باريس فى أثناء مؤتمر الصلح سنة 1919م.
سرى هذا العُرف حتّى على ميسورى الحال من رجالات تلك المرحلة ممّن استطاعوا دفع أجرة الاستوديو لالتقاط صورة رسميّة لهم ولأسرهم، بأناقتهم الكاملة، وكأنّهم يحضرون مناسبة مهمّة جدّاً. كان الذهاب إلى المصوّر مناسبة تقتضى أن يرتدى الرجل أفضل ما عنده من هندام، وكأنّه ذاهب إلى حفلة عرس. حتّى الأطفال يظهرون فى هذه الصور عابسين، مثل آبائهم، يقفون أمام آلة التصوير بكلّ وقار وجدّيّة. ظهرت بعدها (موضة) مصوّرى الشارع؛ المعروفين بالمصوّر الأرمنيّ ،كانت صورهم أرخص من صور الأستوديو، يقفون خلف آلات تصويرهم المرفوعة على (سيبة)، ويضعون فوق رأسهم غطاء أسود عند التقاط الصورة، وفى فلسطين كانوا يسمّونهم أستوديو “بحبش” لأنّ المصوّر كان يُبحبش عن زرّ التصوير فى الظلام لالتقاط الصورة. كانت صور أستوديو بحبش مخصَّصة لجوازات السفر، والبطاقات الشخصيّة، ورُخَص السير وغيرها من الصور المطلوبة فى الأوراق الثبوتيّة.
هناك تفسيرات عدّة لانعدام الابتسامة فى كلّ هذه الصور، ومنها المدّة الطويلة التى كان المصوّر يستغرقها فى التقاطها بحيث يتعذّر على أيّ شخص رسم ابتسامة عريضة على وجهه لمدّة تفوق خمس دقائق أو أكثر. وهناك من يقول إنّ انعدام الابتسامة يعود بشكل رئيسيّ إلى حالة الأسنان فى تلك المرحلة، وقلّة العناية بها، فالابتسامة الكبيرة كانت ستؤثّر سلباً فى جمال صاحب الصورة. الفرضيّة ممكنة طبعاً، وقد تُفسّر مثلاً عدم ظهور المحامى السوريّ فوزى الغزّيّ، واضع دستور سوريا الجمهوريّة الأوّل سنة 1928 مبتسماً فى أيّ صورة بالمطلق، فقد كان يُعانى تساقطا فى أسنانه نتيجة مرض أصابه فى سنوات الاعتقال. حتّى نجوم هوليود كانوا يحرصون على عدم إظهار أسنانهم، ومنهم نجم العشرينيّات شارلى شابلن.
فى عودة إلى تاريخ التصوير نجد أنّ الابتسامات بدأت تظهر تدريجيّاً فى العالم منذ ثلاثينيّات القرن العشرين، ولم تصل إلى عالمنا العربيّ إلّا فى منتصف الأربعينيّات، وهذا يظهر بوضوح فى صور الملوك والزعماء العرب فى قمّة أنشاص فى أيار 1945. هنا بدأت الابتسامة تظهر على شفاه الملك فاروق، والرئيس السوريّ شكرى القوّتليّ بعد أن رأيناها على وجه الرئيس الأمريكى فرانكلن روزفلت، ورئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل. كان تشرشل كريماً بابتسامته العريضة، يوزّعها على المصوّرين رافعاً شعار النصر لشدّ عزيمة الشعب البريطانيّ فى أثناء القصف الألمانيّ على لندن.
أكان ذلك ناتجاً عن تخفيف القيود الاجتماعيّة إبّان الحرب العالميّة الثانية، أم أنّه جاء بسبب زيادة الوعى بالرعاية الصحّيّة للأسنان؟ أم أنّه كان نتيجة انتشار آلات التصوير “كوداد” فى العالم بعد طرحها للتداول التجاريّ فى أمريكا؟ لقد جاءت آلة التصوير صغيرة خفيفة، وكان سعرها مناسباً، يمكن لأيّ شخص اقتناؤها، وقد ملأت إعلاناتها الصحف المصريّة والسوريّة فى مرحلة الأربعينيّات، وفيها ظهر أناس سعداء مبتسمون وهم يقومون بأعمال عاديّة؛ كاللعب مع الأطفال أو الذهاب إلى العمل.
كسّرت هذه الإعلانات الصورة النمطيّة للتصوير الضوئيّ، وجعلته أمراً عاديّاً لكلّ أفراد الأسرة، ليس فيه أيّ كلفة مادّيّة أو معنويّة، وما كان أمام الزعماء والملوك إلّا أن يمضوا فى هذه الموضة الجارفة. لتصبح صورهم طبيعيّة تظهر فيها الابتسامة بشكل واضح ومقصود، لأنسنة الساسة، وجعلهم أقرب إلى الناس العاديّين.
***
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!