يوم عقد العرب مؤتمرهم الأول في باريس قبل 110 سنوات

سامي مروان مبيّض – مجلّة المجلّة (لندن، 23 حزيران 2023)

قبل سنوات طويلة من تأسيس جامعة الدول العربية وإطلاق القمم العربية التي كان آخرها في شهر مايو/أيار الماضي، عقد العرب مؤتمرهم الأول في باريس سنة 1913، بهدف جمع قوتهم وتوحيد صوتهم وصفوفهم في وجه الدولة العثمانية.

في الفترة ما بين 18-23 يونيو/حزيران 1913 اجتمع مندوبو العرب في قاعة الجمعية الجغرافية الفرنسية في شارع سان جيرمان العريق بباريس، القريب من المجلس الوطني الفرنسي، وخرجوا بمقررات تاريخية – لو طبّقت – لتغير شكل الشرق الأوسط ولربما ما كانت الثورة العربية الكبرى بعد ثلاث سنوات. طالبوا بزيادة تمثيلهم السياسي في الدولة، والاعتراف بهم كمكون رئيس من مكونات السلطنة العثمانية، مع صون لغتهم وجعلها رسمية في المدارس وفي مجلس المبعوثان العثماني في إسطنبول (أول مجلس نيابي عثماني أسسه السلطان عبد الحميد الثاني عام 1876م).

ردّ الدولة العثمانية كان في الأساس سلبياً للغاية، وقد ترافق مع حملة تشهير وتخوين ممنهجة ضد المؤتمر ومنظميه، قامت بها الصحف التركية بإيعاز من جمعية الاتحاد والترقي الحاكمة في إسطنبول. ولكن عقلاء السلطنة يومها نجحوا في تبديل الموقف الرسمي، ولو مؤقتاً، وأعلنوا موافقتهم على كل طلبات العرب قبل التراجع عنها، واحداً تلو الآخر، مع اندلاع الحرب العالمية الأولى في صيف عام 1914. بين ليلة وضحاها طويت كل مقررات مؤتمر العرب وكان مصير منظميه وأعضائه إمّا النفي أو الاعتقال أو الإعدام في ساحات بيروت ودمشق.

التحضير للمؤتمر

فكرة انعقاد المؤتمر جاءت من قبل مجموعة من الطلاب العرب المقيمين في فرنسا، من مؤسسي الجمعية العربية الفتاة وهي جمعية سرية ولدت في باريس سنة 1911. جميعهم كانوا قلقين من تزايد القمع وكبت الحريات في بلادهم، الذي ترافق مع وصول مجموعة من العسكر إلى الحكم في إسطنبول إثر انقلابهم على السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1908 والإطاحة به في شهر أبريل/نيسان من العام 1909.

وقد ارتبط القمع، ومعه سياسة التتريك، بجمعية الاتحاد والترقي وباشاواتها الثلاثة: أنور وطلعت وجمال، علماً أنهم كانوا قد وعدوا العرب بالانفتاح والتعايش، مع إنشاء نظام برلماني وديمقراطي. قاموا مثلاً برفع الرقابة عن الصحف وفرضوا على السلطان العودة إلى الدستور العثماني الذي كان قد أقره في سبعينيات القرن التاسع عشر، مع الدعوة إلى انتخابات نيابية في أرجاء السلطنة كافة. ولكنهم سرعان ما تراجعوا عن وعودهم البرّاقة وعادوا إلى سياسة القمع والاعتقال التعسفي، وهو ما ألهم الطلاب العرب الدعوة لانعقاد المؤتمر العربي في مطلع صيف عام 1913.

بعض الطلبة حذروا من انعقاد المؤتمر في أوروبا، وقالوا إن الاتحاديين سيتهمونهم فوراً بالعمالة للدولة الفرنسية المضيفة، ولكن آخرين أصروا على باريس وكانت الغلبة لهم، وشكلت لجنة تحضيرية من ثمانية أشخاص، وزّع أعضاؤها بالتساوي بين مسلمين ومسيحيين. المسلمون كانوا جميل مردم بك (دمشق)، عبد الغني العريسي، ومحمد المحمصاني (بيروت)، وعوني عبد الهادي (نابلس). أمّا المسيحيون فكانوا: ندرة مطران، وجميل معلوف، وشارل دبّاس، وشكري غانم، رئيس غرفة التجارة العثمانية في باريس. وعلى الرغم من إطلاق اسم العرب أجمعين على المؤتمر، إلى أنه كان وبشكل رئيس مؤتمراً لبنانياً – سورياً، ليس فيه من العراق إلا مندوبان اثنان فقط، هما توفيق سويد، وسليمان عنبر، إضافة إلى ثلاثة سوريين، وجمع من المفكرين والسياسيين والكتاب اللبنانيين. اثنان من الأعضاء حضروا ممثلين عن أحزابهم: إسكندر عمّون (رئيس حزب الاتحاد اللبناني) والشيخ عبد الحميد الزهراوي من حمص (ممثلاً عن حزب اللامركزية العثماني). وشاركت في المؤتمر جمعية بيروت الإصلاحية بستة ممثلين، يتقدمهم الوجيه البيروتي سليم علي سلام (والد رئيس الحكومة اللبنانية في المستقبل صائب سلام). وأخيراً كان هناك تمثيل للجاليات العربية في فرنسا والولايات المتحدة الأميركية والمكسيك.

الشيخ عبد الحميد الزهراوي

الشيخ عبد الحميد الزهراوي

الحضور اللبناني

انتُخب أكبر الأعضاء سناً، الشيخ عبد الحميد الزهراوي، رئيساً للمؤتمر، وسمّي شكري غانم نائباً له. كان الزهراوي في الثامنة والخمسين من عمره، يليه إسكندر عمّون (56 سنة) وسليم سلام (45 سنة). أمّا بقية الأعضاء، فكانوا جميعاً شباباً يافعين في مقتبل العمر، مثل جميل مردم بك (18 سنة)، وعبد الغني العريسي (22 سنة)، وعوني عبد الهادي (24 سنة).

قائمة اللبنانيين المشاركين في المؤتمر ضمّت الشيخ أحمد طبارة من بيروت، والمحاميين رزق الله أرقش، وشارل دبّاس، والوجهاء أحمد مختار بيهم، وألبير سرسق، وأيوب ثابت، ورئيس تحرير صحيفة الأهرام، اللبناني داوود بركات. وكان معهم الصحافي اللبناني خليل زينيّة، مؤسس مجلّة “الراوي”، وعبد الغني العريسي، مؤسس جريدة “المفيد”، وعبد الكريم خليل، رئيس المنتدى الأدبي في إسطنبول.

عُيّن المحامي الشاب شارل دبّاس مقرراً لجلسات المؤتمر باللغة الفرنسية، وتولّى جميل مردم بك تسجيل وإدارة جلساته باللغة العربية. في سنوات لاحقة، وصل أربعة من هؤلاء إلى سدّة الحكم في بلادهم: جميل مردم بك وتوفيق سويد، توليا رئاسة الحكومة في سوريا والعراق. وشارل دبّاس وأيوب ثابت، توليا رئاسة الجمهورية في لبنان، زمن الانتداب الفرنسي.

مقررات المؤتمر

أنهى المؤتمر أعماله بسلسلة من المطالب الجريئة، وجاء في بيانه الختامي أن الإصلاحات الحقيقية باتت “واجبة وضرورية للمملكة العثمانية؛ ويجب أن تتم بسرعة”. وطالب المؤتمر بإدارة لامركزية في الولايات العربية، والاعتراف باللغة العربية في المدارس وفي “مجلس المبعوثان” كلغة ثانية بعد التركية، وأن تكون الخدمة الإلزامية “محلية” في الولايات العربية “إلا في الظروف والأحيان التي تدعو إلى الاستثناء الأقصى”. وأصر أعضاء المؤتمر على عدم طرح أي موضوع قد يؤول أو يفسر على أنه مقدمة للمطالبة باستقلال العرب، وقالوا: “إن العرب لا يريدون الانفصال عن الأتراك وإنما يريدون إصلاحاً ينهض بالبلاد من عثرتها ويفتح لها السبيل لمجاراة سائر الأمم في مطالب الحياة”. كما جاء في إحدى الجلسات: “نريد حكومة عثمانية، لا تركية ولا عربية… حكومة يتساوى فيها جميع العثمانيين في الحقوق والواجبات فلا يستأثر فريق بحق من الحقوق ولا يحرم فريق من حق من الحقوق لا بداعي الجنس ولا بداعي الدين”.

كيف ردت السلطات العثمانية على المؤتمر

طُبعت مقررات المؤتمر على ورق رسمي حمل ترويسة “المؤتمر العربي”، وأرسلت إلى السفارة العثمانية في باريس. وفي إسطنبول، دار نقاش حاد حول كيفية التعامل مع هذه المطالب، وبدأت حملة تشهير في الصحف، ومنها جريدة “طنين” الناطقة بلسان جمعية الاتحاد والترقي التي كتبت: “إن هؤلاء المؤتمرين باسم العرب النجباء الذين نظموا بروغرامهم وأعدوا معدات الاحتلال ستكون لهم عاقبة أليمة جداً”. وفي عددها الصادر في 6 يوليو/تموز 1913 عنونت الصحيفة “مؤتمر غريب”، واتهمت أعضاء المؤتمر ومنظميه بأنهم “دخلوا في الجنسية الفرنسية ولم يبق لهم أقل صلة بالعربية والإسلام”.

وفي دمشق طلب الوالي عارف المارديني من الوجهاء رفع كتب اعتراض إلى مؤتمر باريس، تقول إن مقرراته لا تمثل العرب، وأن القائمين عليه استفردوا بالقرار العربي وصادروه بدعم وتخطيط وتمويل من الحكومة الفرنسية. أول من لبّى نداء الوالي كان عبد الرحمن باشا اليوسف، أمير الحج الشامي، ومعه ناظر الأوقاف الأسبق محمد فوزي باشا العظم (والد رئيس الحكومة السورية فيما بعد خالد العظم). تلاهم أمير البيان الأمير شكيب أرسلان، والشيخ أسعد الشقيري، مفتي الجيش العثماني الرابع في سوريا.

وفي أروقة الحكم في إسطنبول، اختلف الاتحاديون حول كيفية الرد على مقررات باريس، فالبعض عدّ المنظمين عملاء لفرنسا وطالب باعتقالهم ومحاكمتهم، وقال آخرون إنهم يعملون لصالح الوكالة اليهودية بدليل دعوة أحد أعضائها فيكتور جاكوبسون لحضور جلسات المؤتمر. وكان حضور جاكوبسون المؤتمر كضيف مستمع قد تم فعلاً لتقريب وجهات النظر بين العرب والصهاينة، بعد سلسلة من اللقاءات الثنائية التي طالب بها اليهود بدعم العرب لقيام دولتهم في فلسطين، مقابل مساعدتهم على نيل استقلالهم عن الدولة العثمانية. كانت السلطنة قد خسرت ليبيا لصالح إيطاليا سنة 1912 وهي تواجه حركات انفصالية في بلغاريا وصربيا والجبل الأسود، أي إن آخر ما كانت تتوقعه في هذا الظرف ظهور فريق معاد لها في الولايات العربية.

ولكنّ وجهة نظر ثانية ظهرت داخل جمعية الاتحاد والترقي – وهي التي غلبت – بأن المؤتمر العربي لم يخرج من تحت عباءة السلطان ولم يطالب باستقلال العرب، وبذلك يجب التعامل معه بحكمة ودراية.

وفي نهاية المطاف أرسل الاتحاديون سكرتير حزبهم مدحت شكري إلى فرنسا للاجتماع بقادة المؤتمر، وفي 13 يوليو/تموز 1913 أعلنت الدولة أنها على استعداد تام لتلبية مطالب العرب كافّة. وصدر بيان من 13 نقطة نُشر في الصحف وجاء فيه أن الدولة العثمانية قررت تبني اللغة العربية في مدارس الولايات العربية، وجعل الخدمة الإلزامية للعرب في مناطقهم حصراً، مع تخصيص “كوته” للتمثيل العربي في كبرى وظائف الدولة لا تتجاوز خمسة ولاة عرب وعشرة متصرفين.

الهدنة المؤقتة

استُقبل قرار الاتحاديين بمظاهرات فرح وسرور في كلّ من دمشق وبيروت والقدس، وفي 5 أغسطس/آب 1913 دُعي وفد عربي رفيع إلى إسطنبول للقاء الباشاوات الثلاثة في عقر دارهم. أقيمت لهم مأدبة عشاء في فندق توكالتيان، واستقبل السلطان محمد رشاد الخامس أعضاء الوفد العربي في قصره، حيث كرروا أمامه أن هدف مؤتمرهم كان تقوية الدولة العثمانية وجعلها منيعة وعصية على أي تدخلات خارجية، وليس الفتك بها والقضاء عليها عبر أي مشروع انفصالي. قبِل السلطان هذا الطرح، وفي 4 ديسمبر/كانون الأول 1914 أصدر فرماناً بتسمية رئيس المؤتمر عبدالحميد الزهراوي عضواً في مجلس الأعيان في إسطنبول.

العودة إلى الخلف

كل هذه التفاهمات ذهبت أدراج الرياح مع اندلاع الحرب العالمية الأولى في صيف العام 1914 وإعلان الحرب على فرنسا في شهر نوفمبر/تشرين الثاني. ولم يعد بعدها لا السلطان ولا الباشاوات الثلاثة راغبين في تقديم أي تنازل، لا للعرب ولا لغيرهم، وأصبح كل من ارتبط اسمه بفرنسا متهماً بالعمالة حتى يثبت العكس. وصارت السلطات العثمانية تنظر إلى أعضاء مؤتمر باريس على أنهم إمّا جواسيس وعملاء، وإما وفي الحد الأدنى “مشاغبين” يجب القضاء عليهم وإسكاتهم بكل السبل المتاحة. ثم جاء الكشف عن وثائق سريّة في القنصلية الفرنسية بدمشق، أدين بموجبها بعض أعضاء المؤتمر العربي بالعمالة لصالح فرنسا والسعي لقلب نظام الحكم في إسطنبول. خمسة من أعضاء المؤتمر اعتقلوا ومثلوا أمام الديوان العرفي في عالية وأعدموا شنقاً في ساحات بيروت ودمشق بين أغسطس/آب 1915 و6 مايو/أيار 1916. وقد شملت إعدامات جمال باشا الشهيرة كلا من رئيس المؤتمر عبد الحميد الزهراوي، ورفاقه عبد الغني العريسي، وعبد الكريم خليل، وأحمد طبارة، ومحمد المحمصاني، وحُكم على جميل مردم بك بالإعدام أيضاً، ولكن غيابياً، لوجوده في باريس. ومع حلول الذكرى الثالثة لمؤتمر العرب في يونيو/حزيران 1916 بات مؤتمراً ميتاً، وكذلك كل قراراته وكثير من رموزه.

***

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *