فاروق وسورية
سامي مروان مبيّض – رصيف 22 (بيروت 6 آذار 2023)
في ربيع سنة 1949 حط في مطار القاهرة الصحافي السوري نذير فنصة، قادماً من دمشق. جاء بصفته مديراً لمكتب حسني الزعيم، الذي كان قد نفذ انقلاباً عسكرياً في سوريا قبل حوالي عشرة أيام وأطاح بحكم الرئيس السوري شكري القوتلي. دعاه الملك فاروق لتناول الفطور وسرّ فنصة كثيراً٫ فالفطور مع ملك مصر والسودان له طعم خاص ومختلف عن أي فطور في العالم. وبالفعل دخل على القاعة الخدم بلباسهم المزركش، يحملون أطباقاً من فضّة تخرج منها ألسنة اللهب، وضعت أمام الملك وضيفه. وكانت المفاجأة عند فتح الأطباق ليجد فنصة أنها عبارة عن فول بكل أنواعه ونكهاته وخلطاته٫ لأن فاروق الأول كان يعشق الفول. أما في دمشق فكان الفول طعام الدراويش وذوي الدخل المحدود، ولا يوضع على طاولة الرؤساء. لم يُخف نذير فنصة دهشته من “منيو” الملك، فضحك فاروق وقال: “للفول أصول. مثل أفخر مأكولات العالم، يؤكل بالخبز تغميساً”.
يُصادف هذا الشهر الذكرى الثامنة والخمسين لرحيل الملك فاروق (18 آذار/مارس 1965) الذي توفي وهو على مائدة عشاء متأخر في أحد مطاعم روما، يأكل وجبة من محار البحر. وقد كُتب عنه الكثير من يومها؛ عن علاقته بزوجاته، عن خلافاته مع أمّه، وعن دوره في تاريخ مصر والوطن العربي. ولكن شيئاً لم يُكتب بعد عن علاقته بسوريا والسوريين، أو “الشوام” كما كان يقول عنهم العوام في القاهرة.
ولعل هذه العلاقة بدأت داخل المنزل عندما كان فاروق طفلاً، عبر القصص المتوارثة شفهياً عن جد أبيه إبراهيم باشا وكيف تمكن من انتزاع سوريا من العثمانيين وحكمها في الفترة ما بين 1831-1840. كان عهده بدمشق عهد إصلاح بامتياز، وقد قد ترك فيها عدداً لا بأس به من الضباط والمستشارين والتجار، فضلوا البقاء في سوريا، مثل محمود نامي، جد أحمد نامي رئيس الدولة في زمن الانتداب الفرنسي.
وفي ثلاثينيات القرن العشرين، طرح اسم بعض أقرباء الملك فاروق لتولي عرش سوريا، مثل ابن عم جدّه الأمير يوسف كمال والخديوي الأسبق عباس حلمي الثاني. وقد شب فاروق في وقت كان “شوام القاهرة” يتفوقون بعدة مجالات، ابتداءً من الدعوة الدينية عبر الشيخ السوري رشيد رضا، مروراً بالطب عبر الطبيب السوري عبد الرحمن الشهبندر، وصولاً إلى الفنون عن طريق فريد الأطرش وشقيقته أسمهان.
فاروق والقوتلي
بعض هؤلاء دخل قصر عابدين بشكل نظامي ومباشر، مثل نجيب هواويني الدمشقي، خطاط الملك فاروق، وغيرهم من دخل بطرق غريبة، كالمطربة السورية أسمهان التي أحبها أحمد حسنين باشا، رئيس ديوان الملك.
ولكن علاقة فاروق بالسوريين لم تأخذ شكلها المتين حتى سنة 1943، يوم انتخاب شكري القوتلي رئيساً للجمهورية في دمشق. القوتلي كان يعرف مصر جيداً وقد قضى فيها سنوات طويلة منفياً عن بلاده بسبب نشاطه ضد الحكم الفرنسي في سوريا٫ وكان صديقاً لملك السعودية عبد العزيز آل سعود، حليف الملك فاروق، ما جعل التحالف السياسي بينهما مدخلاً لعلاقة شخصية متينة ظهرت بسرعة. وهذا على الرغم من فارق العمر بينهما لأن القوتلي سنة 1943 كان في الثانية والخمسين من عمره، أما فاروق فكان لا يزال في الثالثة والعشرين.
وقد تعاوناً معاً بشكل وثيق عند تأسيس جامعة الدول العربية سنة 1944، حيث ولدت صداقة جديدة بين فاروق ورئيس الحكومة السورية سعد الله الجابري. وعندما مرض الأخير تكفل فاروق بطبابته وقامت صفية زغلول، زوجة سعد باشا زغلول، بالإشراف على علاجه في مصر.
أما الدور الأكبر لفاروق في تاريخ سوريا الحديث فكان العمل مع الملك عبد العزيز لترتيب لقاء يجمع بين شكري القوتلي ورئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل في شباط/فبراير 1945. وقد عرض الملك السعودي ترتيب قمة القوتلي – تشرشل، وقام الملك فاروق باستضافتها في القاهرة٫ وفيها تقرر دعوة سوريا لتكون إحدى الدول المؤسسة في الأمم المتحدة التي عقد مؤتمرها التأسيسي في مدينة سان فرنسيسكو الأمريكية في نيسان/أبريل 1945.
لم يكتف فاروق عند هذا الحد، وعمل على تهريب سعد الله الجابري. من دمشق عندما كان رئيساً للمجلس النيابي في أيار/مايو 1945، بعد أن حاول الفرنسيون اغتياله أو اعتقاله، وتم نقله إلى القاهرة، حيث وضع مكتب رئيس مجلس الوزراء إسماعيل صدقي باشا تحت تصرفه. وعند تحرير سوريا من الفرنسيين في 17 نيسان/أبريل 1946، أرسل الملك فاروق كبير أمنائه عبد اللطيف طلعت باشا لمشاركة القوتلي احتفالاتِ عيد الجلاء الأول، مصحوباً بفرقة من الجيش المصري.
الصحافة السورية وولي عهد مصر
ومن القصص المضحكة التي حصلت بين فاروق وسوريا كان نشر خبر في الصحف السورية في خريف عام 1943، يقول بأن الملكة فريدة سترزق بمولود ذكر قريباً، وسيكون هو ولي عهد مصر المقبل. ضجت الصحف العربية بهذا الخبر وأحدث بلبلة كبيرة في القاهرة؛ فكيف للصحافة الدمشقية أن تنفرد بخبر “مصري” من هذا العيار الثقيل؟
ومع اقتراب الولادة، جزمت الصحف السورية أن اسم المولود سيكون فؤاد (على اسم جده الملك فؤاد الأول)، وأمر سعد الله الجابري بأن تقام الزينات وتنصب أقواس النصر وتضرب المدافع احتفالاً بولي العهد الذي طال انتظاره. تمّت الولادة في 15 كانون الأول/ديسمبر 1943، ورُزق فاروق ليس بصبي بل بالأميرة فادية. أما وليّ العهد الأمير أحمد فؤاد، فلم يأت إلا في 16 كانون الثاني/يناير 1952، أي قبل ستة أشهر فقط من عزل أبيه عن العرش.
فاروق وحسني الزعيم
خلال حرب فلسطين، قال القوتلي لأمين عام جامعة الدول العربية إنه لن يدخل الحرب إلا بعد التأكد من مشاركة مصر. أما عن نتائج تلك الحرب فقد كانت كارثية على كل من فاروق والقوتلي٫ وأولى ثمارها كان الانقلاب العسكري الذي قام به حسني الزعيم فجر يوم 29 آذار/مارس 1949. نُقل القوتلي إلى السجن وفي 6 نيسان/أبريل 1949 أجبر على الاستقالة وتوجه إلى مصر٫ حيث حل ضيفاً على صديقه القديم، الملك فاروق. وقد رفض الملك بداية الاعتراف بشرعية الانقلاب وظلّ متمسكاً بالقوتلي رئيساً دستورياً لسوريا. أزعجه انقلاب الزعيم كثيراً، ولم يخطر بباله يومئذ أنه سيتعرض لانقلاب مماثل بعث ثلاث سنوات، يطيح به وبالأسرة الحاكمة في 23 تموز/يوليو 1952. ويعتقد بعض المعاصرين من تلك المرحلة أن الضباط الأحرار استلهموا انقلابهم على الملك من انقلاب حسني الزعيم.
ولكن ضرورة السياسة ومصالح الدول كانت ولا تزال تضفو فوق مصلحة جميع الأفراد. فقد أدرك فاروق أنه بحاجة للزعيم لأجل بقاء ضمن التحالف المصري-السعودي المعارض للأسرة الهاشمية في العراق والأردن. علِم فاروق أن رئيس وزراء العراق نوري السعيد كان قد زار دمشق قبل أيام واجتمع مع حسني الزعيم في محاولة استمالته ضد القاهرة والرياض، ولكنه غادر دون التوصل لنتيجة. مصر والسعودية كانتا حتى ذلك اليوم لم تعترفا بشرعية الانقلاب السوري، وظلتا متمسكتين بالقوتلي رئيساً لسوريا. ولكن للضرورة أحكام٫ وبناءً عليها قرر فاروق الاعتراف بحسني الزعيم والعمل معه مقابل بقاء سوريا خارج الحلف الهاشمي.
أرسل الملك فاروق رسالة سرية إلى دمشق داعياً الزعيم إلى التفاوض. وقد سافر المبعوث إلى مصر، وهو نذير فنصة، لترتيب قمة فاروق – الزعيم يوم 21 نيسان/أبريل 1949 فكانت مثمرة للغاية، وأعلن الزعيم من بعدها عن الاستمرار في علاقة سوريا “التاريخية” مع مصر. ولشدة تأثره بالملك فاروق، قطع الزعيم علاقات سوريا مع العراق والأردن وقال في مؤتمر صحافي بدمشق يوم 26 نيسان/أبريل 1949: “سوف آتي بالملك عبد الله إلى هنا وأعلق مشنقته في ساحة المرجة”.
وقد وصل الأمر بالزعيم للاحتفال رسمياً بعيد الجلوس الملكي يوم 6 أيار/مايو 1949، حيث زار بنفسه مقر البعثة المصرية بدمشق لتقليد أفرادها أوسمة الاستحقاق السورية، ثم خطب في حفل كبير أقيم في سينما دمشق قائلاً: “لقد كان للفاروق العظيم جهود مشكورة في بناء سورية الجديدة… خلّد الله عهد فاروق وحفظه لمصر والسودان والعروبة ذخراً وسنداً”.
ولكن كل هذا لم يحمِ الزعيم من مصيره الأسود، فقد تم الانقلاب عليه وإعدامه رمياً بالرصاص يوم 14 آب/أغسطس 1949. أعلنت مصر، بتوجيهٍ من ملكها، الحدادَ ثلاثة أيام على حسني الزعيم٫ ما أزعج شكري القوتلي الذي كان لا يزال مقيماً في الإسكندرية يومها. وقد أحدث هذا الأمر فتوراً بين القوتلي وفاروق، استمر حتى ثورة الضباط الأحرار في تموز/يوليو 1952.
انقطعت علاقة الملك السابق من يومها بالرئيس السوري الأسبق وبمن عرفهم معه من السوريين، ولم يدرك أنها ستعود بعد سنوات طويلة عند اختيار الممثل السوري تيم حسن للقيام بدوره في مسلسل الملك فاروق سنة 2007، وأن يكون العمل من إخراج المخرج السوري الراحل حاتم علي. وبعدها بسبع سنوات سيكون ممثل سوري آخر، وهو قصي خولي، يلعب دور الخديوي إسماعيل، جد فاروق الأول، في مسلسل سرايا عابدين.
***
شكرا على المقال الثري الملك فاروق كان مصري قومي يؤمن بقومية الثقافة وكان يكره الإنجليز لأنه كان يدرك المساعي الإمبريالية لبريطانيا و هذا ما جعله يقيم علاقات مع سوريا التي كانت تملك كتلة وطنية نظرت لمشروع الدولة الوطنية السورية
انا متابع لأفكاركم سيدي الفاضل قمة التأريخ