حارة الضبع أو دمشق 2017
سامي مروان مبيّض – صحيفة الوطن (دمشق 8 حزيران 2017)
منذ سنوات كتبت مقالاً مطولاً بينت فيه الأخطاء التاريخية التي وقع فيها الجزء الأول من مسلسل «باب الحارة»، تحدث مثلاً عن موضوع «باب» الحارة نفسه، الذي أظهر العمل بأنه كان يُحرس ليلاً ولا يفتح بعد المغيب إلا لأهالي الحي. هذا الكلام لا ينطبق إلا في زمن الغزوات والحروب وليس في حالات السلم لأن دمشق كانت دوماً مدينة نور وعلم وتجارة، لا تُقفل أبوابها السبعة أمام الغريب بل تستقبله بأياد مفتوحة، وهي لم تغلق أبوابها يوماً أمام كل من لجأ إليها عبر التاريخ باحثاً عن علم أو مسكن آمن، هارباً من جوع أو عطش أو خوف في بلاده.
تساءلت مستغرباً أننا لم نر سينما واحدة في «باب الحارة»، ولا جريدة أو قصيدة شعر، علماً أن دمشق في مطلع الثلاثينيات كانت مدينة متطورة ومتنورة للغاية، فيها صناعة سينما، ومسارح، وقانون سير مركبات، وترامواي، وندوات أدبية، وحقوق نشر للمؤلفين، وحفلات موسيقية لأكبر الفنانين العرب. كانت دمشق مسرحاً لنشاط سياسي رفيع، فيها أحزاب وتظاهرات نسائية ورجال فكر وقانون وجامعة عصرية قل مثيلها في العالم العربي. أعيان دمشق يومها كانوا شكري القوتلي وعبد الرحمن الشهبندر وفارس الخوري وفخري البارودي، وليس الخضري والقهوجي والحلاق والفران، مع فائق الاحترام لتلك المهن. وبذلك الزمن لم تكن أعيان المدينة تلبس الشروال بل البدلات الرسمية أو القمباز المقصب والطربوش الجوخ، فالشروال كان حصراً للفعالة وللعمل الزراعي في غوطة دمشق. الطربوش لم يكن يضع «طب» على الطاولة، فهذا فال بشع عند الدمشقيين، لا يضع إلا على نعش الميت في الجنائز، وحينها سيدات دمشق المسلمات كنّ يرتدين الأبيض الناصع وليس الأسود، كما أظهر المسلسل في الكثير من حلقاته.
دمشق لم تكن يوماً تشبه شيكاغو أو صقليا في أفلام المافيا، فلا أحد يخرج سلاحه للقتال فالخنجر سلاح أبيض لم تكن فرنسا تسمح باستخدامه بهذا الشكل. أخيراً فإن سيدات دمشق كنّ مثالاً للرقي والأنوثة والاحترام، يعرفن الأصول جيداً حتى لو لم يكن إلا القليل منهن يجيد القراءة والكتابة، فالمرأة الشامية كانت أميرة في بيت أبيها وملكة في دار أولادها، تدير شؤون منزلها بدقة بالغة حتى لو أشعرت زوجها بأنه هو الآمر الناهي في هذه الدار، فالكلمة العليا كانت دوماً لها وحدها.
كل هذه التفاصيل الصغيرة أعرفها جيداً بالتوارث والمشاهدة والممارسة كما يعرفها أهالي دمشق كافة. إلا أنني ومع كل التحفظات على هذا المسلسل، فلا مانع لدي من التعامل معه كعمل كوميدي ساخر أو كفنتازيا اجتماعية وليس كوثيقة تاريخية أو «ملحمة دمشقية» كما يصر البعض على إظهارها. في نهاية المطاف شئنا أم أبينا، هي قصة نجاح سورية دخلت تاريخ الدراما السورية والعربية. اليوم يدخل «باب الحارة» جزأه التاسع ونلاحظ غضباً عارماً في الأوساط السورية عامة من مضمونه، يصل إلى حد المطالبة بمقاضاة مخرجه بتهمة الإساءة والتشويه لمدينة دمشق وماضيها العريق. مع كل التحفظات على هذا المسلسل، فهناك الكثير من المبالغة في هذا الطرح، فالمسلسل لم يدع يوماً أنه عمل وثائقي، في إعلاناته التجارية ولا في شارته ولا في أي تصريح لمخرجه أو أحد أبطاله، بل نحن الذين ألصقنا هذه الصفة به، والتي هي أكبر منه بكثير، ومع الأسف تم التعامل معه داخل سورية وخارجها على هذا الأساس.
ليس دفاعاً عن «باب الحارة» ولكن ما الفرق بين شخصيتي «أبو بدر» وزوجته «فوزية» وبين «ياسينو» وزوجته «فطوم» بطلي «صح النوم»، المسلسل الكوميدي الأشهر في تاريخ الدراما الذي عرض لأول مرة قبل قرابة نصف القرن ودخل كل بيت عربي من المحيط إلى الخليج؟ نقول مثلاً: إن «باب الحارة» أظهر سيدات دمشق بشكل مهين، وهو كلام صحيح، ولكن ما الفرق بين ذلك ومشاهد الراحل خالد تاجا وهو يصفع زوجتيه بعصا الخيزران في مسلسل «أيام شامية»، علماً أنه العمل الأشهر والأقرب إلى قلوب الدمشقيين. للتوضيح أنا لا أقارن بين تلك الأعمال الخالدة و«باب الحارة» ولا أحمل أياً منها تهمة «تزوير» تاريخ دمشق، بل أتعامل معها حصراً كمسلسلات ترفيهية لا أكثر. لو أراد أحد منا أن يعرف تاريخ دمشق الحقيقي فعليه بقراءة مراجع علمية بدلاً من مشاهدة الأعمال التلفزيونية التجارية، وحكماً سيستفيد من قتيبة الشهابي أكثر بكثير من بسام الملا.
انتهينا إذاً من اعتبار أن «باب الحارة» عمل خيالي، ولكن ماذا عن الأعمال المعاصرة التي تدعي أنها توثق لمدينة دمشق اليوم؟ هل دمشق عام 2017 هي أفضل وأجمل من «حارة الضبع» الوهمية بكل عيوبها، وهل نحن اليوم سكان دمشق وقاطنوها أحسن حالاً من شخصيات «باب الحارة؟» شوارع باب الحارة أنيقة ونظيفة، لا تشوهات بصرية فيها، لا حواجز ولا ستائر ترابية أو«كولابات» لشخصيات من ورق وتجار حرب لم يروا ساحة المعركة بحياتهم. في «باب الحارة» لا أحد يرمي قمامة على الأرض، ولا أحد يقود سيارته بعكس السير وهو شاهر سلاحه، متجاهلاً القانون وشرطة المرور والمواطن معاً. لا يوجد مجلس نيابي يقطع جميع الطرقات المؤدية إليه عند اجتماع «نواب الشعب» في وسط العاصمة دمشق، معرقلاً حياة الناس ومصالحها. في تلك الحارة الافتراضية غلبت الشهامة على الزعرنة، وتغلب الحق على الباطل، فلا تفييش ولا تعفيش ولا ترفيق في تلك الحارة، فأهلها كانوا يخافون العيب ويفرقون جيداً بين الحلال والحرام، يعاقبون المرتشي والفاسد بدلاً من وضعه في صدارة المجتمع، وينبذون الخائن.
أتعرفون أين الاساءة الحقيقة لدمشق؟ هي في الأعمال المعاصرة، تلك الأعمال التي تتحدث عن «الأزمة» وحياتنا اليومية في دمشق، عن فقدان المواد الأساسية للعيش وغلاء الأسعار، عن انقطاع الكهرباء لساعات وساعات، عن طوابير الانتظار على أبواب الأفران ومحطات البنزين، عن أسعار السوق السوداء لمادة الفيول، عن فساد المشافي والقضاء، عن تسيب التعليم، عن بيوت البغاء، عن تهريب الآثار والمتاجرة بالبشر، عن سرقة المنازل واستغلال حاجة الناس، عن معاناة اللاجئين والمفقودين والمخطوفين.
لا هذه المدينة هي دمشق ولا تلك التي تظهر على شاشات الفضائيات العربية، ونرفض أن تكونا دمشق، دمشق الحقيقية ستعود، وستنفض غبار الحرب عنها، فهذه سنة التاريخ وسنة الحياة معاً، ولكن أخشى ما أخشاه أن يأتي يوم ولو بعد سنوات ونرى أعمالاً درامية تتحدث عن مجتمعنا اليوم وتعتبر أن هذا الحال المشوه هو دمشق، لأننا يومها سوف نترحم على.. «أيام باب الحارة».
***