التألم بصمت

 

سامي مروان مبيّض – جريدة الوطن (دمشق 19 أيلول 2017)

 

انفجرت مواقع التواصل الاجتماعي غضباً في الأيام القليلة الماضية حول قضية المناهج التربوية الجديدة التي وضعها 400 «أكاديمي» سوري، كما قيل لنا مؤخراً. عثر على خريطة في طيات الكتاب لا تحتوي على اللواء السليب، وعلى تمارين وأمثلة بعيدة جداً عن مجتمعنا، وكأنها منسوخة نسخاً من الخارج.

الكتب الجديدة، علم الأطفال، موسيقا الراب مثلاً، تحذرهم من قبول طلب صداقة من شخص غريب على موقع فيسبوك وهم في الصف الرابع الابتدائي. أولاً لا يجب أن يكون طالب صف الرابع موجوداً على الفيسبوك أصلاً، وثانياً هناك قرى في سورية مدمرة أو شبه مدمرة لا تصلها الكهرباء وحكماً لا إنترنت فيها ولا فيسبوك، فكيف لطلاب تلك المناطق أن يتفاعلوا مع سؤال من هذا النوع؟

وهناك مثال الفتى الذي قدم له البائع قطعة حلوة، في إيحاء واضح عن تحرش جنسي، بصياغته الحالية، التمرين ينهي الناس عن الكرم ويخيف الأطفال من أي رجل يكبرهم بالسن، عمّاً كان أم جاراً أم عابر سبيل. على الرغم من سنوات الحرب الطويلة ما زال مجتمعنا في بعض الأماكن والأحيان يفتخر بضيافة الغريب، وفتح أبوابه له، ويعتبر حاتم الطائي قدوة، فما رسالة هذا الكتاب المدرسي الجديد وهي تنسف كل ذلك؟

في مطلع هذا العام كتبت مقالاً مطولاً عن مقرر «تاريخ العالم العربي» في المنهاج الحالي لطلاب الثانوي الأدبي، بينت فيه بعض الأخطاء، وردت وزارة التربية يومها بمقال لطيف اعترفت بمعظم تلك الأخطاء وسوغت أو دافعت عن الكثير منها.

بعدها بأسابيع دعيت مشكوراً لحضور أحد اجتماعات هيئة تطوير المناهج، دار فيه نقاش مطول حول مادة التاريخ القديم وحضارة بلاد ما بين النهرين.

طلب مني إبداء الرأي بالمضمون، وهنا بيت القصيد وجوهر مشكلة اليوم: إقحام الغرباء في المواضيع العلمية والأخذ برأيهم، سواء كانوا ضيوفاً مثلي أم أهالي طلاب، طلب منهم إبداء الرأي عند وضع الكتب الجديدة على موقع التشاركية قبل الطبع. هذه ليست ديمقراطية بل فوضى عارمة، لأن ربة المنزل وأهالي الطلاب غير قادرين على إبداء الرأي في مواضيع علمية، فهذا عمل العلماء والمختصين فقط.

أنا أكتب في تاريخ بلادي خلال السنوات 1908-1958، ولدي بعض الآراء المتواضعة في مراحل لاحقة من القرن العشرين واهتمام بالتاريخ الأموي والعثماني، لكنني وبالمنطلق لا أصلح لإبداء أي رأي، من قريب ولا من بعيد، عن الحضارة الآشورية مثلاً أو الحقبة الرومانية وإن فعلت أفقد احترامي لنفسي أولاً وأدن بالوقاحة العلمية والغباء المهني.

إن لقب «الأكاديمي» قد أصبح مهترئاً في بلادنا، يطلق على كل من يحمل شهادة جامعية أو شهادة معهد، ولكن في العالم كله الأكاديمي هو المعلم والمدرس صاحب الاختصاص، الذي قضى عمراً بين الكتب والأبحاث، يعمل حصراً في العلم والعلم فقط ولا أعلم كم من الأكاديميين الحقيقيين شاركوا في وضع هذه المناهج.

أعود إلى التاريخ القريب مثل العادة وأقول إن الدولة السورية قامت بالاستعانة بقامتين علميتين من الوطن العربي لوضع المنهاج التربوي والكتب المدرسية الجديدة للعام الدراسي 1944-1945هما: مؤسس جامعة بغداد وواضع المناهج السورية الأولى بعد خروج العثمانيين، العلامة المؤرخ ساطع الحصري، وَعَبَد الرزاق السنهوري وزير المعارف في مصر أيام الملكية وواضع القانون المدني المصري. كما تعاقدت الحكومة مع الجامعة الأميركية في بيروت لتدريب أساتذة المدارس في سورية، وشكلت لجنة استشارية مؤلفة من جميع وزراء المعارف السابقين لمراجعة الكتب الجديدة، ضمت خمسة رؤساء حكومات تولوا حقيبة المعارف: فارس الخوري وحسن الحكيم وحسني البرازي ولطفي الحفار ونصوحي البخاري، إضافة إلى وزراء معارف مرموقين سابقين مثل رئيس جامعة دمشق الدكتور رضا سعيد ورئيس مجمع اللغة العربية محمد كرد علي، وشاعر الشام خليل مردم بك.

البعض قد يجيب: «نحن في حرب وقاماتنا العلمية خارج البلاد، أعطني نخباً وخذ مناهج سليمة».

هذا كلام مرفوض، النخب العلمية موجودة وكذلك المعلمون القدامى ومعهم عدد من الشخصيات الوطنية التي لا تظهر على وسائل الإعلام ولا تعرف النفاق والتزلف أو الوقوف على أبواب الجيل الجديد من المسؤولين والوزراء. جميعهم موجودون في بيوتهم، متقاعدون حتى لو لم يبلغوا سن التقاعد بعد، يتألمون بحرقة قلب وصمت إلى ما وصلت إليه أوضاع البلاد والعباد. لو طرقتم أبوابهم لفتحوها لكم ورحبوا بكم وأعطوكم كل ما في جعبتهم من خبرة وعلم وعطاء.

في عام 1967 كتب نزار قباني بغضب:

نريد جيلاً غاضباً..

نريد جيلاً يفلح الآفاق

وينكش التاريخ من جذوره..

وينكش الفكر من الأعماق

نريد جيلاً قادماً..

مختلف الملامح..

لا يغفر الأخطاء.. لا يسامح..

لا ينحني..

لا يعرف النفاق..

نريد جيلاً..

رائداً..

عملاق..

هل أنتم متفقون حقاً مع نزار؟ من يرد جيلاً عملاقاً ينبش التاريخ من جذوره ويفلح الآفاق، لا يصدر كتباً مدرسية من هذا النوع.

***