الرموز والإشارات في السياسة
سامي مروان مبيّض – رصيف 22 (بيروت، 13 آب 2020)
عندما دخل الجنرال الفرنسي هنري غورو، مدينة دمشق مُحتلاً، في صيف العام 1920، أقام مأدبة غداء على شرف وجهاء البلاد وزعمائها. اختيار المكان لم يكن صدفة، فقد دعاهم إلى قصر المهاجرين، قصر ملكهم الأسبق، فيصل الأول، إمعاناً بالاستخفاف والتهكم. معظم الحاضرين يومها كانوا قد تسلّموا وظائف حكومية رفيعة في عهد فيصل الذي خلع عن العرش ونفي خارج الحدود السورية. وقد نظر غورو إليهم متسائلاً: “أهذا هو القصر الذي كان يسكنه الملك فيصل؟”
أجابه فارس الخوري، وزير المالية في حينها، المعروف بسرعة بديهته: “نعم يا عطوفة الجنرال. وكان أول من أنشأه الوالي العثماني ناظم باشا، واحتله بعده جمال باشا أثناء الحرب العالمية الأولى، وفي نفس هذه الغرفة تناولنا الطعام مع ناظم باشا ومع جمال باشا ومع المارشال أللنبي ومع الملك فيصل والآن معكم. وانظروا إلى تصرفات القدر، فقد رحلوا جميعاً وبقي القصر وبقينا نحن.”
من غورو الأمس إلى ماكرون اليوم
تذكرت هذه القصة عند مشاهدة الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون، في بيروت قبل أسبوع، وهو يجتمع مع زعماء لبنان في قصر الصنوبر، الذي أُعلن من على شرفته قيام لبنان الكبير على يد الفرنسيين ذاتهم، قبل 100 عام، في 1 أيلول 1920. هذا القصر ظلّ شاهداً على الإرث الفرانكفوني في لبنان، بالرغم من الدمار الذي لحق به خلال الحرب الأهلية.
للجمهورية الفرنسية باع طويل في الرمزيات المماثلة التي لا تخلو أبداً من الرسائل السياسية المبطنة، نذكر منها على سبيل المثال، قرار هنري غورو نفسه، إرسال إنذاره الشهير للملك فيصل، يوم 14 تموز 1920، مطالباً بحل النظام الملكي بدمشق، في الذكرى السنوية للثورة الفرنسية على الحكم الملكي في باريس. وعندما استعرض غورو الجيش الفرنسي بدمشق، وأعلن قيام دولة الانتداب، فضّل الوقوف على شرفة دار البلدية، التي شهدت تتويج فيصل قبل خمسة أشهر، بدلاً من السراي الحكومي الكبير.
انتقام القادة
نأخذ على سبيل المثال إصرار رئيس وزراء بريطانيا، ونستون تشرشل، على أن تكون هزيمة القوات الفرنسية الموالية لأدولف هتلر في الشرق الأوسط في يوم 14 تموز 1941، نظراً لدلالة التاريخ وأهميته بالنسبة للشعب الفرنسي. كان بإمكانه أن يحدد موعد 13 تموز مثلاً أو 15 تموز، ولكن أصر على 14 تموز، لأنه كان مؤرخاً بالإضافة لكونه رجل دولة. والمثال الثاني هو أدولف هتلر الذي أصر أن يكون قرار استسلام فرنسا في الحرب العالمية الثانية، في نفس المكان الذي وقعت فيه هزيمة ألمانيا واستسلامها نهاية الحرب العالمية الأولى. كان هذا الانتقام على متن عربة قطار، شهدت التواقيع في 11 تشرين الأول 1918 و22 حزيران 1940، قبل أن يتم تدميرها في نهاية الحرب.
ومنذ خمسة أشهر، لجأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لنفس الأسلوب، حينما اجتمع مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان، في موسكو، بحضور تمثال للملكة كاترين الثانية، التي هزمت العثمانيين وأخذت منهم جزيرة القرم عام 1783. التمثال كان موجوداً في كل لقاءات بوتين مع زواره، ولكن وجوده في القمة مع أردوغان حمل رمزية مضاعفة.
قائمة القادة الذين استخدموا هذا الأسلوب المُبطن تطول، فمنهم من نجح في رمزيته ومنهم من أخفق. ولعل أكبر المخفقين كان الرئيس السوري حسني الزعيم، لأنه اعتمد على ذكائه وليس على مستشاريه، عندما أرسل سيفاً دمشقياً مُعتقاً لنظيره الفرنسي فينسنت أوريول، مُدعياً أنه سيف صلاح الدين الأيوبي، فرد الرئيس الفرنسي الهدية ببندقية قديمة، قال إنها كانت لنابليون بونابارت. نظر حسني الزعيم إلى الهدية القادمة من باريس وعلّق بالقول: “هذه البندقية لا تبدو قديمة، ولعلها ليست لنابليون”.
فرد الفرنسيون: “هي لنابليون قدر ما كان سيفكم لصلاح الدين الأيوبي.”
***
مافي شي بعالم السياسيين عبثي. كله مدروس بين بعضهم