الخرف ونعمة النسيان
سامي مروان مبيّض – مجلة الصيّاد (بيروت 24 تشرين الأول 2016)
كل مهنة طبيعتها وخصوصيتها، وهناك الكثير من العوامل التي تلعب دوراً هاماً في تطورها أو في الوقوف عائقاً في وجهها، فأصبح التلفزيون مثلا عدواً للراديو. والصحافة الإلكترونية عدوة للصحف الورقية، وعبارة ممنوع التدخين من أشد أعداء المدخنين في المطاعم والمطارات، لكن هناك أموراً أخرى خارجة عن السيطرة وتأخذ طابعاً قَدَرياً…
في مهنتي، الخرف هو العدو الأول للمؤرخين والموثقين، فكم من قصة ضاعت وكم من شهادة دُثرت وكم من شخصٍ غاب بدون تسجيل شهادته للتاريخ بسبب هذا المرض اللعين الذي يلتهم الذاكرة ويدمرها شيئاً بعد شيء. على مدى قرابة العشرين عاماً عانيت الأمرّين من الخرف، كلما زرت شخصية تاريخية مرموقة اكتشفت بعد بضع دقائق فقط أن هذا الرجل لم يعد قادراً بعد الآن على أن يروي قصة متكاملة للحقيقة والتاريخ. في معظم الأحيان كنت ألاحظ التدهور عليهم بين جلسة وأخرى لا تبعد الأولى عن الثانية إلاً أياماً معدودة فقط.
أبرز تجاربي الشخصية مع الخرف كانت مع جدي الذي توفي عن عمرٍ قارب المائة وغاب عن عالمنا مطلع عام 2010.
عدنان بك رحمه الله كان معلمي الأول في تاريخ سوريا الحديث وسبب دراستي وشغفي بتاريخ دمشق. بدأت تظهر عليه معالم الزهايمر الخبيث قبل سنوات قليلة من وفاته. وكم كانت مؤلمة تلك الحالة بالنسبة لنا، أن نرى هذا الرجل الطيب والصلب يتلاشى أمام أعيننا بدون قدرة من أحد على مساعدته. مهنته الأساسية في سجلات الدولة كانت ملاك وخبير زراعي، أو إقطاعياً عفناً كما كان يسميه الاشتراكيون الأشاوس في الستينيات. ورث أراضي شاسعة عن أبيه وجده في غوطة دمشق الشرقية، ضاع معظمها في عتمة قوانين الإصلاح الزراعي أيام الوحدة مع مصر، والتهمت الحرب الحالية ما تبقى منها. طوال حياته رفض جدي التفريط بشبر واحد مما تبقى من أراضيه بالرغم من عروض مغرية قُدمت له من مستثمرين سوريين وعرب. وكان يتفاخر بأنه قال لأكرم الحوراني يوماً، عندما كان الأخير نائباً للرئيس جمال عبد الناصر، أن الاشتراكية المصرية سوف تدمر الاقتصاد السوري. وكان يردد بحزم: “قوة الرجال تكمن في الأرض، مزارعاً كان أم ملاكاً، إن خسرت أرضك أو بعتها يا بني، اعرف بأنك تكون قد انتهيت تماماً!”
في أيامه الأخيرة نسي جدي جميع أصدقائه وأقربائه وجيرانه، ولكنه لم ينس الطريق الترابي الوعر المؤدي الى أرضه في غوطة دمشق، وكان يشير لنا بيده يمين، يسار لأنه حفظها عن ظهر قلب، فكانت بمثابة الطريق الوحيدة الى قلبه. ولم ينس أكرم الحوراني أيضاً الذي كان يعتبره المسؤول المباشر عن مصادرة أراضيه وأرزاقه خلال سنوات الوحدة، وقد كان يرتجف غضباً عند ذكر اسم الحوراني أمامه، وكأن قرارات التأميم لم يمض عليها إلاّ ساعات قليلة فقط.
بالرغم من الخرف لم ينس جدي صورة والدته الطيبة ولا صوت أم كلثوم، يبتسم عند سماعها تغني من اجل عينيك عشقت الهوى، ولكنه نسي اسمه وعمره وعنوانه، إلا أنه لم ينس دمشق يوما. ليست دمشق التي كان يعيش فيها أيام الشيخوخة وإنما دمشق في مرحلة طفولته وشبابه، بكل معالمها وتفاصيلها الصغيرة، من نهر بردى الغزير وسكة الترامواي، مروراً بالفرنك المثقوب، وطريق الربوة، ودار الحكومة السراي القديم في ساحة المرجة. نسي شقيقته العجوز المقيمة معه منذ أن أبصر النور ولكنه لم ينس اسم زوجته الجميلة التي انفصل عنها منذ ستين سنة، ولم يرها قط منذ ذلك اليوم. في لحظات الهدوء والسكينة كانت تدمع عيناه ويذكرها بالقول: “مسكينة نبيهة، ماتت!” ثم ينهض الى الفراش معانقا مذياعه الصغير للاستماع الى آخر أخبار إذاعة لندن قبل النوم. عند سماع أغنية حديثة لأحد المغنين الجدد كان يعبس وينده لي قائلاً: “في صوت غريب…الراديو عطلان، روح صلحو!”
نسي جدي اسم الحزب الحاكم في سوريا منذ عام 1963 ولكنه لم ينس الكتلة الوطنية التي انتسب إليها في شبابه وحارب فرنسا في صفوفها ورشح نفسه نائباً عنها للبرلمان السوري عام 1943. في السياسة نسي الحدود التي فرضت عليه والتي تغيرت مراراً في حياته الطويلة. رفض الاعتراف مثلاً أنه بحاجة لتأشيرة دخول إلى العراق، أو أن هناك حدوداً أصلاً تفصل بين سوريا ولبنان. غابت عنه تفاصيل الجغرافيا، وكان ينظر الى ساحة المالكي من على شرفة منزل العائلة في دمشق ويعتقد أنه يتناول قهوة الصباح على البحر في مقهى الحاج داوود في بيروت حيث عاش سنوات مع عائلته هرباً من نيران الثورة السورية الكبرى عام 1925! حاولت مراراً لفت نظره بأننا في الشام ولسنا في بيروت فرّد بالقول مبتسماً: “بيروت أو الشام، شو الفرق يا أبني؟”
قضى الخَرَف على شريط طويل من الذكريات الملونة، ومع ذلك تغلب القلب على المرض وحفظت الذاكرة الهرمة أركان أساسية فقط: والدته، حبيباته، أم كلثوم، أرضه ودمشق…
لا أخفيكم سراً، في آخر الليل وأنا عائدٌ من زيارته المسائية، كنت أحسده كثيراً على الخرف، ونعمة النسيان….
***