ليش برام الله في نفط؟

 

 

سامي مروان مبيّض – صحيفة الأهرام (القاهرة، 10 أيلول 2022)

 

الجميع يعرف الكاتب الكولومبيّ العالميّ غابرييل جارثيا ماركيز من رواياته الشهيرة، مثل: مئة عام من العزلة والحبّ في زمن الكوليرا، ولكنّ القلّة يعرفون أنّه كان ناقداً سينمائيّاً فذّاً في بلاده، وكاتباً لسيناريو عدّة أفلام كولومبيّة لم يقترب أي منها من الشهرة التي حقّقتها كتبه.

والجميع يعرف أيضاً الروائي البرازيلي العالمي باولو كويللو من خلال قصصه الشهيرة: من الخيميائي، إلى إحدى عشرة دقيقة، ولكن القلّة يعرفون أنه إضافة لعمله الأدبي، يجيد كتابة الأغاني. أمّا عن الأديب الكبير أمين معلوف، فقليلون هم الذين يعرفون أن مؤلف سمرقند وضع كلمات خمس أغان أوبرالية في حياته، عُزفت على مسارح باريس وليون وفى مهرجان موزارت الشهير في فيينا.

الكتّاب عادة وبعد أن ينالوا نصيبهم من الشهرة يسعون نحو التنوّع في منتجهم الفكري، والتوسّع في مجال عملهم خارج النمط التقليديّ الذي عرفوا به طيلة مسيرتهم, فمنهم من ينتقل من الكتابة إلى النشر، وهو أمر طبيعي ومتوقَّع، مثل الأديب الأمريكي مارك توين، والشاعر السوري الكبير نزار قبّاني الذى أسَّس داراً للطباعة والنشر باسمه في بيروت، وكان قبل أن يتفرّغ لكتابة الشعر قد خدم في محطّات دبلوماسيّة عدّة موظّفاً في وزارة الخارجيّة السوريّة، وقد بقى يكتب طيلة سنوات عمله الدبلوماسي، وقد ألهمته المدن التي عمل بها أجمل قصائده، مثل بكين ومدريد وأنقرة.

نزار لم يكن بحاجة إلى المال، فهو ابن صناعي معروف وسليل أسرة دمشقية ميسورة. لذلك، كان بوسعه ترك العمل الوظيفي والتفرغ للشعر. أما نجيب محفوظ، فقد أجبرته ظروف الحياة على البقاء في عمله الوظيفي حتى التقاعد، وقد عمل سكرتيراً في وزارة الأوقاف المصريّة، ثمّ مديراً للرقابة في وزارة الثقافة، وأخيراً رئيس مجلس إدارة مؤسسة السينما عام 1966.

كان محفوظ موظفاً حكومياً يتقاضى أجراً شهرياً متواضعاً من الدولة عند نشره رائعة أولاد حارتنا على صفحات الأهرام سنة 1959، قبل أن تظهر في كتاب سنة 1967. وهناك طبعاً تجربة الروائي الأمريكي الكبير ستيفن كينغ في التمثيل السينمائي، وهو مجال يختلف جذريّاً عن الكتابة التي برع بها، عمل به شغفاً وحبّاً بالتجديد بعد أن حقّقت مؤلّفاته مبيعات خياليّة وصلت إلى 350 مليون كتاب عالمي.

وأخيرا هناك من الأدباء من عمل في الرسم؛ مثل جبران خليل جبران الذي عُرِف رسّاماً في أمريكا ولبنان قبل أن يكون أديباً.

وهناك من الأدباء من يتجه نحو العمل السياسي والمناصب الحكومية الرفيعة، مثل الدكتور طه حسين الذي تولّى حقيبة المعارف في مصر سنة 1950، ومحمّد حسنين هيكل، الذي عُيّن وزيراً للإعلام سنة 1970، والصحفيّ اللبنانيّ غسّان تويني، الذي تقلّد عدّة مناصب وزاريّة في السبعينيات قبل تعيينه سفيراً في الأمم المتَّحدة سنة 1977، ولكنّ هؤلاء جميعا سرعان ما عادوا إلى مهنتهم الأمّ، وكثيرا ما ندموا على تجربتهم السياسيّة التي أفقدتهم استقلاليّتهم، ومنعتهم من كتابة ما يدور في ذهنهم؛ نظرا للمناصب الحسّاسة التي تولّوها. وجميعهم أدركوا أنهم من خلال الكتابة والنشر، حققوا شهرة لنفسهم تفوق سمعة وشهرة ونفوذ الكثير من رؤساء الدول العربية.

أذكر أنّى تحدّثت ذات يوم مع الأستاذ هيكل وخاطبتهُ بلقب “معاليك” ظنّاً منّى أنّ هذا اللقب سيرضيه، فردّ بلطف قائلاً: “أنا لا أحبّ هذا اللقب، وهو لا يعنى شيئاً بالنسبة لي، وأفضّل أن تناديني باسمي.” وقد تكرّر الموقف نفسه قبلها بسنوات مع الأديب السوريّ الراحل الدكتور عبد السلام العجيلي، وهو طبيب ماهر وروائيّ استثنائيّ، تولّى حقيبة الخارجيّة في بلاده مطلع الستينيّات، ولكنّه بقي يُفضّل أن يناديه الجميع باسمه، دون أيّ تفخيم وتعظيم.

يبقى السؤال: هل كانت هذه الانتقالات المهنيّة مفيدة لمسيرة هؤلاء الكبار جميعهم؟ أم أنّها أبعدتهم عن المهنة التي أبدعوا بها واشتهروا بسببها؟ وهل كان للعامل المادّي أي دور في قرارهم، مثل حال نجيب محفوظ، أم أنه كان بسبب شعورهم بالضيق ضمن الإطار التقليديّ الذي عُرفوا فيه، ورغبتهم في كسر الصورة النمطية التي رُسِمت لهم فى ذهن قرائهم؟

وطبعا، هناك من عمل على هامش السياسة، ولكنّه فضّل عدم تبوء أي منصب رسمي في حياته؛ مثل الشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي انتخب عضواً في اللجنة التنفيذيّة لمنظّمة التحرير الفلسطينية، ولكنّه استقال منها احتجاجاً على توقيع اتفاقيّة أوسلو سنة 1993.

يُحكى أنّ الرئيس ياسر عرفات عرض علي محمود درويش تسلّم أيّ حقيبة وزاريّة في السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة عند إنشائها، فحاول درويش الاعتذار بلباقة، ولكنّ أبا عمّار ألحّ عليه قائلا: “اختر أي حقيبة ولن أناقشك بها.”

فردّ درويش بذكاء: “أريد حقيبة النفط.”

استغرب عرفات من هذا الطرح، وقال: “يا محمود، ليش برام الله في نفط؟”

أجابه درويش: “بس يصير في نفط، أنا جاهز لتولّيها.”

***

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *