دون كيشوتيو القرن الواحد والعشرين

 

سامي مروان مبيّض (دمشق، 17 كانون الثاني 2022)

 

في مثل هذه الأيام من سنة 1605، صدر الجزء الأول من رواية “دون كيشوت،” للكاتب الإسباني الشهير ميغيل دي ثيربانتس. تعتبر هذه الرواية هي الأشهر في الأدب العالمي، والأكثر ترجمة، وبعض النقاد يعدونها الرواية الأولى في الغرب.

تدور أحداثها حول شخصية “ألونسو كيخانو،” ذلك الرجل النبيل المولع بقراء كتب الفروسية والشهامة. كان رجلاً حالماً يُصدق كل ما يقرأه على الورق، ما يؤدي إلى ضعف شديد في عقله، فيقرر أن يترك منزله وأسرته بحثاً عن مغامرات وهمية، يرى فيها الخمّارة قصراً شامخاً والمومسات سيدات مجتمع راقيات. ومن أشهر مشاهد القصة طبعاً مطاردة “دون كيشوت” لطواحين الهواء، التي يحاربها بجنون ظناً أنها عمالقة مفترسة.  وخلال غيابه عن منزله، تقوم أسرته بإحراق مكتبته الكبيرة، باعتبار أنها كانت السبب في مرضه العقلي وهلوساته.

أعود إلى تلك الرواية في ذكرى إصدارها الأول وأسأل: كم من “دون كيشوت” موجود اليوم في عالمنا العربي؟

كم من حالمٍ صدّق كل ما قرأه في كتب التاريخ، وظنّ أنها حقيقة مطلقة وليست خيال أدبي؟ كم من حالمٍ عربي آمن بعنترة العبسي والزير سالم وغيرهم، وصدق بطولات عربية لم تحدث؟ كم من حالمٍ أعجب بشخصيات عربية صغيرة…صغيرة بكل المقاييس…تم تكبيرها بالمجهر ووضعها في مرتبة الأبطال العظام؟ كم من حالمٍ قضى عمراً وهو يعيش وهماً تلو الأخر، وهزيمة تلو الهزيمة، وأمضى أجمل سنوات عمره في مطاردة طواحين الهواء؟

كم من حالمٍ ظنّ أن الكلمة أقوى من المال ومن البندقية، وصدق عبارة “الحق يعلو ولا يُعلى عليه؟”

كم من حالمٍ أرعن، ظنّ أنه قادر على تغيير واقع بلاده، قبل أن يستيقظ من هلوسات النهار وسكرات الليل؟

ثيربانتس نفسه عاش حياة بائسة، لا تختلف كثيراً عن حياة جميع الحالمين الذين قلّدوا “دون كيشوت” في مغامراته وأحلامه. فقد ولد وتربى في فقر مدقع، وأجبر على مغادرة بلاده نفياً إلى روما، حيث عمل مستخدماً في منزل أحد الكهنة.

التحق بعدها بالبحرية الإسبانية، حيث أصيب بجروح بالغة، قبل أن يتم اعتقاله من قبل القراصنة، حيث قضى خمس سنوات سجيناً. وقد توفي في مدريد إثر إصابته بداء السكري سنة 1616، ودفن في إحدى الأديرة. ولكن حتى رفاته لم تسلم من الأذى، فقد ضاعت خلال أعمال ترميم أجريت للدير سنة 1673، وبدأت عملية البحث عنها سنة 2014.

ولا يزال البحث مستمراً في إسبانيا، كما لا نزال نحن…قراء الكتب التاريخية والروايات الأدبية…نُطارد طواحين الهواء، مثلما فعل “دون كيشوت.”

***

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *