خط الجهل

سامي مروان مبيّض (دمشق، 15 تموز 2021)

 

في نهايات القرن التاسع عشر كان يعيش في دمشق مستثمر يوناني اسمه ديمتري كاراه. أنشأ فندقاً حديثاً في نزلة جوزة الحدباء، كان الأول من نوعه في المدينة، وأطلق عليه اسم “فندق ديمتري” وتبعه بمقهى قريب حمل نفس الاسم في ساحة المرجة، كان أول من أدخل طاولة البلياردو إلى سورية.

كان ديمتري كاراه رجلاً متنوراً وقارئاً نهماً، أحب الأديب الفرنسي فيكتور هوغو وحزن عليه كثيراً عند وفاته سنة 1885. فقام بوضع صورة له وسط مقهى ديمتري في ساحة المرجة.

السواد الأعظم من أهالي دمشق لم يكونوا على اطلاع على الأدب العالمي ولا يعرفون فيكتور هوغو، لا شكلاً ولا اسماً. وقد أثارت الصورة تساؤلات الزبائن، عن هوية ذلك الرجل الملتحي بلحية البيضاء كثة. وقد نادوا لعامل المقهى أبو الفضل الأوبجي، وهو من قبضايات الشّام وكان ديمتري  يعتمد عليه كثيراً لطرد الزعران وفضّ المشاكل داخل المقهى.

“أبو الفضل…مين بيكون الأخ؟”

لم تكن ثقافة أبو الفضل أعلى من ثقافة زبائن المقهى ولكنه لم يُرد أن يظهر جهله فقال: “هاد…هاد شيخ القهوجية بباريس!” ومن يومها أصبح فيكتور هوغو قهوجياً وظلت هذه النكتة موضع تندر الناس زمناً طويلاً.

ومرت الأيام، ودخلت ذات يوم إلى مقهى الروضة العتيق في حمص، في صيف العام 2006. فوجئت بصورة قديمة معلقة في وسط المقهى للرئيس السوري الراحل شكري القوتلي من فترة رئاسته الأولى (1943-1947). لو كانت للرئيس الراحل هاشم الأتاسي لما كنت استغربت، لأنه ابن حمص البار وزعيمها، فما حكاية هذه الصورة للزعيم الدمشقي وسط حمص؟ هل ما زالت موجودة هنا من زمن شكري بك؟

مر من أمامي عامل النراجيل فسألته: “يا معلّم…مين بيكون الأخ؟”

نظر الشاب إلى صورة الرئيس القوتلي قليلاً ثم قال: “الله العليم هذا أبوه لصاحب القهوة، ويمكن هو كان بنى هي القهوة!”

جميعنا يعرف ما هو “خط الفقر” المُتعارف عليه عالمياً، ولكن ما هي حدود “خط الجهل” في عالمنا العربي؟ وهل يوجد أصلاً مقياس حقيقي للجهل، يمكننا الاعتماد عليه لدراسة ما آلت إليه هذه البلاد، التي أنجبت بيت الحكمة ومكتبة الإسكندرية وكلّ علماء وأدباء وشعراء عصر النهضة؟ قد يكون الوقت قد حان لدراسة مستوى الجهل والتخلف في بلادنا، مثلما تَدرس الدول المتحضرة مستوى الرخاء ومستوى المعيشة ومستوى الفقر أيضاً.

قبل عشر سنوات، ونظراً لغياب سياسيين حقيقين ومفكرين، لجأ السوريون إلى فنانين ومشاهير لتحليل أوضاعهم، وطلبوا منهم أن يفتوا بما لا علم لهم فيه بالمطلق. واليوم تعاد التجربة من جديد مع هذا الكم الرهيب من “الخبراء” الذين ظهروا على شاشات الفضائيات العربية لمناقشة وباء كورونا، من محللين سياسيين وخبراء عسكريين ورجال دين وفنانين، لم يقرأوا كتاب عن الالتهابات الرئوية في حياتهم.

بعضهم يقول إن الكورونا لعنة من الله لأننا ابتعدنا عن صلاتنا وصيامنا وأغلقنا أبواب الجوامع والكنائس، والبعض يُضيف بأنها “مؤامرة.” وقد سمعنا بعضهم يصفون وصفات خرافية للوقاية منها، يصل الكثير منها إلى حد الشعوذة والسحر. هؤلاء بكل أسف هم أحفاد جابر بن حيان والكندي وابن النفيس، ولكن يصعب عليهم النطق بجملة واحدة فقط مؤلفة من ثلاث كلمات: “أنا لا أعلم.”

هذا هو الاختلاف الجوهري بين أنظمتنا التربوية والأنظمة الموجودة في الغرب، التي تعترف أولاً بما تجهله قبل الاعتراف بما وصلت إليه من عِلم وتطور. صاحب هذه المدرسة طبعاً هو سقراط الذي قال: “أنا أعرف شيء واحد بالتأكيد، وهو أنني لا أعرف.”

***

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *