جاءت إلى دمشق للزواج من أديب نظمي… اشتهرت وبات مجهولاً
سامي مروان مبيّض – رصيف 22 (بيروت، 17 تموز 2023)
في اليوم الأخير من الحرب العالمية الأولى في دمشق، ومع انسحاب آخر جندي عثماني عن المدينة، سقطت قنبلة يتيمة على العاصمة السورية، أدّت إلى مقتل صحافي مشلول من أصول مصرية، كان مقعداً في داره. كان ذلك في 26 أيلول/سبتمبر 1918، وكان الطيران الحربي العثماني يُحضر لنسف ذخائر السلاح لكيلا تستولي عليها قوات الحلفاء.
لم تسقط على دمشق طيلة سنوات الحرب أي قذيفة، وذلك ما يفسر استغراب الصحافي أديب نظمي عند سماع صوت الطيران الحربي يهدر في السماء؛ فخرج على كرسيه المتحرك للاستفسار، وعندما وصل صحن داره (المفسحة السماوية في البيوت الدمشقية) أصابته شظايا أودته قتيلاً على الفور. دُفن أديب نظمي بسرعة لأن ظروف الحرب والفلتان الأمني الذي رافق انسحاب القوات العثمانية لم يكن يسمح في خروج جنازة معتبرة له أو بإجراء مجلس عزاء يليق به. وبما أن الصحف اليومية كانت مقفلة بسبب الانهيار السريع في صفوف الدولة، لم يكتب عنه أحد وهو الذي قضى حياته في الكتابة عن الآخرين.
عرفت مصرُ الكثير من السوريين الذين هاجروا إليها وحققوا شهرة واسعة في أوساطها الثقافية، فاحتفت بهم بشكل كامل مثل فريد الأطرش وشقيقته أسمهان، وقبلهم كانت الفنانة السورية بديعة مصابني. ولكن ماذا عن المصريين الذين استوطنوا دمشق وحققوا شهرة واسعة فيها؟
في التاريخ القديم كان أشهر هؤلاء غيلان الدمشقي، القبطي المصري الذي عمل مع الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، وكان مصيره الإعدام على أبواب باب كيسان، أمّا في التاريخ الحديث فهناك الكثير من المصريين الذين قدموا إلى سوريا مع حملة إبراهيم باشا في ثلاثينيات القرن التاسع عشر وفضلوا البقاء في ربوع الشّام، ومنهم والد أديب نظمي.
ولد أديب نظمي بدمشق سنة 1840 وكان يعرف بأوساطها بأديب نظمي “الطناحي المصري”، أما في مصر فكانوا يسمونه “أديب نظمي الدمشقي.” بدأ حياته المهنية في جريدة سورية الحكومية التي كانت تصدرها الدولة العثمانية، وفي سنة 1896 انتقل إلى جريدة دمشق الخاصة التي كان يُصدرها الوجيه الكبير أحمد عزت باشا العابد، ثاني أمناء السلطان عبد الحميد الثاني.
تخصص أديب نظمي بالكتابة عن الحركة الفكرية والثقافية، وعمل مراسلاً لجريدة ثمرات الفنون، حيث واكب مسيرة رائد المسرح السوري أبى خليل القباني وكتب عنه الكثير. ولكن وبماء أن العمل الصحافي كان محدودَ الدخل، قرر العمل في دوائر الدولة العثمانية، وعُيّن كاتباً في محكمة الاستئناف، ثم رئيساً لكتابها.
في سنة 1910 أطلق جريدته الخاصة باسم “المُنتخبات،” لكنها أغلقت بعد أشهر بسبب شحّ الإعلانات والارتفاع العالمي في سعر الورق. أطلق بعدها جريدة باسم الكائنات كانت تصدر بأربع صفحات من القطع المتوسط صباح كل يوم ثلاثاء باللغتين العربية والتركية. وقد ظلّت تصدر من سنة 1911 لغاية توقفها سنة 1914 بسبب اندلاع الحرب العالمية الأولى وتعرض صاحبها لمرض شديد أدى إلى شلله ومنعه من ممارسة عمله الصحافي.
زواجه من زينب فواز
ومن المفارقة أن شهرة أديب نظمي اللاحقة لم تأت من عمله الصحافي، بل من زواجه من الأديبة زينب فواز، بنت جبل عامل، التي حققت شهرة واسعة في مصر ووضعت كتب رائدة في مجال الأدب النسائي. كانت زينب من أصول فقيرة، وقد نشأت في قصور آل الأسعد، وفيها تعلمت القراءة والكتابة وتزوجت من صقّار من حاشية بيت الأسعد قبل أن تنفصل عنه وتقترن بأديب نظمي. تعرف أديب إليها بالمراسلة بعد أن قرأ مقالاتها في صحف مصر الكبرى، مثل “النيل” و”المؤيد،” وولدت بينهما علاقة حب دون أن يراها. تبادلا الرسائل والصور، وفي نهاية المطاف جاءت إلى دمشق للزواج منه، ظنّاً أنه رجل منفتح، كما كان يظهر في رسائله. ولم تكن تعلم أن أديب نظمي كان متزوجاً ليس من امرأة واحدة فقط، بل من ثلاث، وجميعهن كنّ على عصمته، وقد توحدن في محاربتها وتحويل حياتها في سوريا إلى جحيم.
وكان زاد من غضبها أن أديب نظمي لم يسكنها في بيته الكبير في حارة الأمين بدمشق، بل في منزل ريفي في سهل حوران، حيث كان يعمل في محكمة الاستئناف. بعض المصادر تقول إنه سمح لها بإقامة صالون أدبي بدمشق، ولكن هذا الأمر يبقى غير موثق ومستبعداً في مدينة محافظة مثل دمشق في ثمانينيات القرن التاسع عشر.
قررت زينب الطلاقَ، وأقامت دعوة مخالعة أمام المحاكم الشرعية، منهية زواجاً دام قرابة الثلاث سنوات. ومن المفارقة أن الدولة السورية أطلقت اسم “زينب فواز” على مدرسة ابتدائية في سوق مدحت باشا، ولم يحظ زوجها على أي تكريم مماثل من السوريين.
نهاية مأساوية
تزوجت زينب لاحقاً من ضابط مصري وانتقلت معه للعيش في القاهرة. أما أديب نظمي فقد عاش سنواته الأخيرة في الصحافة، وكان مؤيداً للانقلاب العسكري الذي أطاح بحكم السلطان عبد الحميد سنة 1908. وقد غاب ذكره كلياً مع اشتداد المرض وإغلاق جريدة الكائنات سنة 1914، لتنتهي حياته بشظايا تلك القذيفة اليتيمة التي مرت فوق داره سنة 1918. وإلى اليوم، ليس له أي صورة في أرشيف المؤرخين، ولم يبق إلا أعداد قليل ونادرة جداً من الكائنات، تباع في محلات “الأنتيكا” بجوار الجامع الأموي.
***
شكرا جزيلا دكتور سامي على ما تتحفنا به من معلومات نجهلها.