بروفيسور المطر
سامي مروان مبيّض (دمشق، 26 تشرين الأول 2022)
هذا الرجل الوسيم هو جدّي المرحوم عدنان العلبي. تذكرته هذا الصباح…
كان ينتظر مطرة تشرين بفارغ الصبر، ويراقبها بدقّة مثل “البروفيسور” لمعرفة مدى تأثيرها في مزروعاته في غوطة دمشق. كانت تلك الأمطار تصل إلى بيوتنا عبر منافذ جبل قاسيون وأقنيته، فتصبّ في نهر يزيد، وعند امتلائه تنزل إلى مستوى نهر تورا، فتستقبلها بساتين الصالحية والنيرب (غربي المالكي اليوم) وأشجارها. كان الجوّ الماطر يذكّر جدّي بالرئيس الراحل هاشم الأتاسي، الذي ارتبطت بداية عهده بهطولات مطريّة، وكان جدّي يقول: “كنّا نقول: قوموا جيبوا الشماسي…رجع هاشم الأتاسي.”
كنّا نسمع هذه القصص ونحن أطفال صغار بعد عودتنا من المدارس ونحن نرتجف من شدّة البرد، فلا نفهم معناها. كنّا ندخل إلى “بيت الدرج،” في مدخل البناء، فنجده أبرد من الفلا، ونجد جدّتي واقفة على باب الدار، وعلى كتفيها شال طويل من الصوف، لونه أخضر داكن، كانت قد حاكته بنفسها. “فوتوا قوام…بوشكم عالصوبيا.”
كانت الصوبيا صديقتي في نهاية “تشارين” ومطلع كوانين، كنت أقف أمام نافذتها المستديرة وأنا طفل أراقب ألسنة اللهب تتصاعد من داخلها. كانت صوبيا بورسلان سوداء، نُحمّص عليها الخبز، ونضع فوقها “برّاد الشاي” وقشر الليمون والبرتقال. كانت تفوح منها رائحة عطر ممزوجة برائحة الخشب العتيق و”النفتلين” القادمة من السجّاد الذي كانت أمّي قد مدّته على طول أرض الدار وعرضها. نعم كان للأمان و”للدفء” رائحة في بيوتنا.
وبعد تناول الطعام كنت أرمي نفسي إلى جانب أبي وهو يأخذ تعسيلته اليوميّة (نومة بعد الظهر) “لأنكمر” تحت شراشف أمّي وفوق وسادتها التي لم تكن تغيب عنها رائحة الصابون.
هذه الذكريات البسيطة…حاولت جاهداً أن أنقلها إلى بناتي، ولكنّي لم أنجح. وكيف أنقلها بعد أن غاب جدّي، ومن بعده أبي…ومعهم غابت دمشق التي عرفتها وأحببتها، ولم يبق إلّا مطرة تشرين؟
***
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!