هنا لندن سيداتي سادتي

 

 

سامي مروان مبيّض – رصيف 22 (بيروت، 6 تشرين الأول 2022)

في سنة 1934، أمر الزعيم الإيطالي بينيتو موسوليني بإطلاق راديو باري الناطق باللغة العربية، بهدف إيصال صوت حكومته إلى ملايين المستمعين العرب القابعين تحت حكم بريطانيا في مصر وفلسطين والعراق، وفرنسا في كل من سوريا ولبنان. كان العالم العربي يومها غاضباً من موسوليني بسبب المجازر التي كان قد ارتكبها في ليبيا، وفي مقدمتها إعدامه المجاهد الشهير عمر المختار سنة 1931.

ظنّ موسوليني أنه وبمخاطبة العرب بلسانهم، يمكنه تحسين صورة نظامه في البلدان العربي وتحطيم صورة فرنسا وبريطانيا. وهذا ما جعل البريطانيين يفكرون جدياً بإطلاق مشروع إذاعي مماثل، لسحب البساط من تحت راديو باري وموسوليني، تمخض عنه ولادة محطة بي بي سي عربي في 3 يناير/كانون الثاني 1938، أي بعد ست سنوات من بدء النسخة الإنكليزية الأم المعروفة من إذاعة BBC.

رداً على موسوليني وهتلر

الهدف المعلن من البث العربي كان لتحدي “البروباغندا” الإيطالية والألمانية، التي كانت تروج دوماً لاستقلال العرب ونسف ما جاء في اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور. بدأت المعركة بين راديو باري وبي بي سي عربي في قضية لواء إسكندرون، الذي طالبت الإذاعة الإيطالية ببقائه ضمن الأراضي السورية وكانت بي بي سي عربي تؤيد طرح الموضوع أمام استفتاء تقوم به عصبة الأمم، التي لم تكن سوريا عضواً فيها.

وقد تضاعف الخوف من إذاعة باري، ومن راديو برلين، بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية في أيلول/سبتمبر 1939، حيث صارت هذه المحطات تستضيف شخصياتٍ عربية نافذة للترويج للمشاريع النازية والفاشية، مثل مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعادة ومفتي القدس الحاج أمين الحسيني، الذي انتقل للعيش في برلين والتقى بأدولف هتلر.

بدأت بي بي سي عربي بعدد محدود من الموظفين، وإرسال محدود أيضاً مدته 65 دقيقة في اليوم الواحد، وكانت افتتاحيتها الشهيرة على لسان المذيع المصري المعروف أحمد كمال سرور: “هنا لندن سيداتي سادتي.” وصارت هذه العبارة هي الأشهر في عالم الإذاعات، تُستخدم عند بدء البث وفي مطلع كلّ نشرة إخبارية. وقد اعتمد القائمون على إذاعة بي بي سي عربي على اللهجة العربية “البيضاء” للوصول إلى أكبر عدد ممكن من المستمعين العرب، التي مزجت بين العربية الفصحى واللهجة الحيادية التي يمكن للمصريين والمشرقيين فهمها، إضافة لأهالي نجد وشمال أفريقيا.

في سنة 1940، توسع بث الإذاعة البريطانية إلى ساعة و25 دقيقة، ما جعل من هتلر أن يزيد من بثّ صوت برلين إلى 95 دقيقة في اليوم الواحد. ومع حلول عام 1942، أصبح بث بي بي سي عربي ساعتين في اليوم الواحد، ليصل إلى الثلاث ساعات سنة 1945، يتخللها قراءة للقرآن الكريم. كما أنها فتحت مكتباً إقليمياً لها سنة 1943، مقرّه القاهرة، وبدأت بتوظيف مراسلين في كل العواصم العربية.

نجاح التجربة الفارسية

وقد تجلى نفوذ محطة “بي بي سي” السياسي بعد إطلاق بثها الفارسي نهاية عام 1940، حيث حولتها إلى منصة للنيل من سمعة الشاه رضا بهلوي، والذي كانت حكومة لندن تتهمه بالميول النازية، بعد رفضه قطعَ علاقات إيران بألمانيا وطرد الخبراء الألمان من بلاده. جيّشت “بي بي سي فارسي” كلَّ إمكانيتها للترويج للغزو البريطاني-الروسي لإيران في آب/أغسطس 1941، والإطاحة بالشاه واستبداله بنجله محمد رضا بهلوي. تقول آن لامبتون، الملحقة الصحافية في السفارة البريطانية في طهران: “أفترض أن بي بي سي لم تحقق مثل هذا النجاح من قبل، وكان نجاح العملية العسكرية (الغزو) تقريباً بسبب البث الفارسي من لندن”.

إذاعة الشرق الأدنى الرديفة

بعد هذا النجاح المبهر، صارت بي بي سي عربي أكثر جرأةً في طروحاتها السياسية، علماً أن المؤسسة الأم كانت قد اشترطت على الحكومة البريطانية قبل بدء البث بالعربي أن تلتزم الحياد ولا تتبع مباشرة لوزارة الخارجية البريطانية. ولأجل الوصول إلى شريحة أوسع من العرب، قامت الحكومة البريطانية سرّاً بتأسيس إذاعة الشرق الأدنى في مدينة يافا الفلسطينية، التي كانت برامجها أكثر تنوعاً من بي بي سي عربي، فيها الكثير من الفقرات الفنية والغنائية، وقليلٌ من السياسة.

روجت الإذاعة الجديدة للسياسات البريطانية، ولو بشكل مبطن، ولم تعترف يوماً أنها تتبع للحكومة البريطانية. وقد قال ذلك بوضوح وزير خارجية بريطانيا أرنست بيفن، عند سؤاله عن إذاعة الشرق الأدنى سنة 1948، حيث أجاب أنها تُدار من قبل إعلاميين عرب، ولا علاقة للحكومة البريطانية بها لا من قريب أو بعيد.

صارت إذاعة الشرق الأدنى تُنتج مسلسلات إذاعية، ومنها انطلق فنانون سوريون كبار، من أمثال تيسير السعدي ورفيق سبيعي، الذي ابتكر شخصية “أبو صياح” عبر أثيرها، كما استضافت مطربين كباراً مثل أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب. بعد تزايد العنف في يافا، انتقل مقرُّها إلى حيّ الجراح في القدس سنة 1948، قبل أن تنتقل مجدداً إلى جزيرة قبرص.

وقد كشفت إذاعة الشرق الأدنى عن هويتها بوضوح خلال العدوان الثلاثي في تشرين الأول/أكتوبر 1956، الذي قادته كلٌّ من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ضد مصر، فحصلت شبه توأمة بين خطها السياسي وخط بي بي سي عربي. كلا الإذاعتين شنتا هجوماً عنيفاً على الرئيس جمال عبد الناصر ووصفتاه بالفاشي “الخطير.” بعدها بأشهر، تم دمج الإذاعة الرديفة مع بي بي سي عربي سنة 1957.

***

 

 

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *