مقولات لم تزلزل البشرية

 

سامي مروان مبيّض – رصيف 22 (بيروت، 23 أيلول 2020)

 

“أنت لا تعرف ماذا أخذت يا سيادة الرئيس! أنت أخذت شعباً يعتقد كلّ من فيه أنه سياسي، ويعتقد خمسون بالمائة من ناسه أنهم زعماء، ويعتقد 25 بالمائة منهم أنهم أنبياء، بينما يعتقد عشرة بالمائة على الأقل أنهم آلهة”.

هذه الجملة الشهيرة تُنسب عادة إلى الرئيس السوري الراحل شكري القوتلي، وهي موجودة بكثرة على مواقع فيسبوك وتويتر وتم تناقلها بعده في صحف عربية، منها جريدة القدس العربي. ويُقال إنه وجهها إلى نظيره المصري جمال عبد الناصر، يوم توقيع الوحدة السورية المصرية في شباط 1958. الرئيس القوتلي كان محباً ومخلصاً لشعبه، وهو لم ينطق بهذا الكلام في حياته أبداً، والمحاضر موجودة لإثبات ذلك في كل من دمشق والقاهرة.

أما مخترع الرواية الزائفة فهو الصحفي المصري محمد حسنين هيكل، صديق عبد الناصر، وقد قالها سنة 1961، بعد مباركة القوتلي لانقلاب الانفصال الذي أطاح بجمهورية الوحدة، وقد دخلت هذه العبارة كتب التاريخ من يومها، لأن كل ما قاله هيكل كان مُنزلاً في الإعلام العربي، لا يناقشه به أحد بالمطلق.

هناك كم هائل من المقولات المماثلة التي غزت صفحات التواصل الاجتماعي مؤخراً، ونُسبت لشخصيات تاريخية من دون أي تدقيق علمي ومنهجي، وبات الناس يتناقلونها وكأنها حقيقة دامغة غير قابلة للشك.

نزار وحسن نصر الله

كتبت جريدة البناء اللبنانية، أن نزار قباني وقبل وفاته سنة 1998، وجه قصيدة إلى الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، عنوانها “السنفونية الجنوبية الخامسة”، جاء فيها:

سَيِدِيِ الإِمَام…

ياَ مَنْ يُصَلِّيِ الفَجْرَ بِحَقْلٍ مِنَ الأَلْغَاَمْ

لا تنتظر من عرب اليوم سوى الكلامْ

لا تنتظر منهم سوى رسائل الغرامْ

لا تلتفت إلى الوراء يا سيدي الإمامْ

فليس في الوراء غير الجهل والظلامْ.

كان نزار قومياً عربياً، نصيراً للمقاومة ومعارضاً بشدة لإسرائيل، ولكنه في الحقيقة كتب هذه القصيدة سنة 1986 وليس 1998. أي أن نصر الله يومها لم يكن تجاوز السادسة والعشرين من عمره، والمقصود بها هو الإمام حسين بن علي وليس نصر الله.

أتاتورك والحجاب

من أكثر المقولات التاريخية رواجاً دون أي تدقيق، أن الرئيس التركي كمال أتاتورك، مؤسس العلمانية في تركيا، منع ارتداء الحجاب في بلاده بعد وصوله إلى الحكم سنة 1923. صحيح أن أتاتورك لم يكن معجباً بالحجاب، ولكنه لم يصدر أي تشريع ضده. والدليل هو أن زوجته لطيفة أوشاكي، كانت تظهر معه في المناسبات العامة وهي ترتدي الحجاب. هذا التشريع صدر بعد وفاة أتاتورك بأكثر من أربعين سنة، إثر الانقلاب العسكري عام 1980.

عمر المختار وسجانه الإيطالي

في فيلمه الشهير عن المجاهد الليبي عمر المختار، يُظهر المخرج السوري مصطفى العقاد، مشهداً جميلاً يجمع بين ضابط إيطالي والمُختار المعتقل والمُكبل بالسلاسل. يسأل فيه الضابط: “كم يوماً ستحتاج لترتيب استسلام رجالك؟”، وكان جواب المُختار: “نحن لا نستسلم… ننتصر أو نموت”، ثم يزيد قائلاً: “أموالكم تماماً كأمجادكم، ليست خالدة. ولكني أحترم ماضيكم وعليكم احترام ماضينا. نحن أيضاً لنا تاريخ وعلوم… رياضات وطب.”

هذا الحوار غير موجود في كل كتب التاريخ والسيرة الذاتية الصادرة عن عمر المختار قبل إنتاج الفيلم السينمائي سنة 1981، ولا يوجد دليل على أن عمر المختار قالها بالفعل. هي جمل ملهمة لا شك، ومصدرها النص المتين في فيلم العقاد، وقد دخلت كتب التاريخ بمعيته ومعية النجم العالمي أننوني كوين الذي جسّد شخصية عمر المختار.

هتلر والعرب

في دمشق، وخلال موجة التعاطف الشعبي مع النازية في بداية الحرب العالمية الثانية، روّجت المخابرات الفرنسية لجملة شهيرة نُسبت إلى أدولف هتلر عن تقيمه لشعوب العالم. قيل إنه قال: “العرب ثم القرود”. وقد نجحت هذه الجملة اليتيمة بتهشيم سمعة الفوهرر لدى السوريين واللبنانيين، وظلّ الناس يرددونها لسنوات طويلة بعد انتهاء الحرب. ولكن هتلر لم يقل هكذا كلاماً في حياته أبداً، وجميع خطبه موجودة حتى اليوم، وذلك ليس حباً بالعرب ولكن لشدة حاجته لهم في حربه مع فرنسا وبريطانيا.

فارس الخوري والأوقاف والإسلام

يتناقل رواد التواصل الاجتماعي عدة قصص عن فارس الخوري، بعضها حقيقي وبعضها خيالي. الخوري طبعاً كان أول مسيحي يصل إلى سدّة البرلمان والسراي الكبير في سورية، وهو من الآباء المؤسسين للجمهورية. إحدى تلك القصص تقول إنه كان وزيراً للأوقاف في عهد شكري القوتلي، وهي قصة عارية عن الصحة تماماً.

الحقيقة أن وزارة الأوقاف لم تكن موجودة في زمنه، وكان هناك مديرية للأوقاف الإسلامية تابعة لمكتب رئيس الوزراء. يوم تكليفه برئاسة الحكومة في تشرين الثاني 1944، اعترض بعض النواب على وضع الأوقاف الإسلامية تحت تصرف شخص مسيحي، فأمر فارس الخوري بتعيين سعيد الغزي مديراً للأوقاف، ولم يتسلّم هذا المنصب قط في حياته.

بينما تؤكد بعض القصص حقيقة إسلام فارس الخوري، أول مسيحي يصل إلى سدة البرلمان السوري، لأنه كان حافظاً للقرآن ومعجباً ببلاغته، إلا أنه في الواقع اعتنق المذهب البروتستانتي عن قناعة وإيمان

وهناك قصة ثانية عن الخوري، تؤكد، بل تجزم، أنه أسلم في أيامه الأخيرة، وهي أيضاً عارية عن الصحة. كان فارس الخوري رجلاً شجاعاً بكل المقاييس، لا يخاف أن يقول رأيه الصريح بأي أمر مهما كان إشكالياً. وهو اعتنق المذهب البروتستانتي عن قناعة وإيمان، علماً أن شقيقه فائز الخوري ظلّ متمسكاً بمذهبه الأرثوذوكسي.

ولكن فارس الخوري كان حافظاً للقرآن، مثله مثل الكثير من المسيحيين العرب يومها، ولا يخفي إعجابه ببلاغته ورصانته، وقد استشهد به مراراً في أحاديثه الخاصة وخطبه، ما أثار هذه الإشاعة حوله داخل المجتمع الدمشقي. وعند وفاته مطلع عام 1962، قام عدد من رجال الدين الإسلامي بتلاوة آيات من القرآن الكريم في مجلس عزائه، لأنه كان رمزاً لكل السوريين وليس للمسيحيين فقط. ومن هنا، قيل إنه أسلم وأوصى أن يتلى القرآن في عزائه.

عفلق ودين محمد

كذلك شاع قول مماثل عن ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث، صاحب محاضرة شهيرة عن عبقرية النبي محمد، ألقيت على مدرج جامعة دمشق في الأربعينيات. وفي أيامه الأخيرة قيل إنه أسلم، وأغلب الظن أن هذه الإشاعة كانت من خيال الرئيس العراقي صدام حسين الذي احتضن عفلق في بغداد.

وكان صدام يعاني من حملة شرسة أطلقتها ضده أجهزة الإعلام الإيرانية خلال الحرب الإيرانية – العراقية، تقول إنه مُلحد وواقع تحت تأثير ذلك “النصراني البعثي”، في إشارة لميشيل عفلق. فعند وفاة الأخير سنة 1989، قيل في العراق إنه أسلم لكي يتخلص صدام من هذه التهمة، وفي عهد صدام، ما كان أحد يجرؤ على تحدي أو مناقشة ما يصدر عن لسانه.

ها قد عدنا يا صلاح الدين

وفي سورية أيضاً يتم تناقل عبارة شهيرة نسبت بكثرة للجنرال الفرنسي هنري غورو، يوم احتلاله لمدينة دمشق ووقوفه على ضريح صلاح الدين الأيوبي عام 1920. يُقال إنه صرح بالقول: “ها قد عدنا يا صلاح الدين”، في إشارة إلى انتقام فرنسا من صلاح الدين في الحروب الصليبية. غورو كان محاطاً بجيش كبير من الصحفيين الفرنسيين، وكانوا ينقلون كل أحاديثه وتحركاته بدقة، ولا يوجد أي إشارة إلى عبارة من هذا النوع في كل الصحف الفرنسية الصادرة في صيف ذلك العام.

ولا يوجد صورة له داخل ضريح صلاح الدين، خلف الجامع الأموي. أغلب الظن أن الرواية من خيال الدمشقيين أنفسهم، وتم تداولها شفهياً عبر أجيال، لتصل إلى مسمع جمال عبد الناصر، حيث استشهد بها ودخلت كتب التاريخ من بعدها. الأغلب أنه سمعها من شكري القوتلي وهو يزور ضريح صلاح الدين يوم قدومه إلى دمشق.

أمين الحافظ وإيلي كوهين

من الروايات المتداولة بكثرة في سورية أن رئيس الدولة أمين الحافظ كان صديقاً للجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، وأنه كان يريد تعيينه في منصب نائب وزير الدفاع. مصدر هذه القصة هو الصحافة المصرية واللبنانية في حينها، التي أرادت النيل من سمعة أمين الحافظ، ولكن وفي شهادته على العصر على قناة الجزيرة سنة 2001 نفى الحافظ هذه الرواية بشدة، مؤكداً أنه لم يلتق بكوهين إلا بعد اعتقاله سنة 1965.

ومع أن أمين الحافظ ليس مشهوراً بمصداقيته إلا أنه أصاب هذه المرة، وبالعودة إلى الوثائق والصور والصحف اليومية، لا نجد أي دليل على أنه كان صديقاً لكوهين، فلا صورة تجمع بينهما ولا حتى في أي مناسبة عامة أو خاصة. تقول الرواية التي جُسّدت مؤخراً على الشاشة في مسلسل الجاسوس من إنتاج شبكة نيتفليكس، أن كوهين صادق الحافظ عندما كان الأخير ملحقاً عسكرياً لبلاده في الأرجنتين في زمن الانفصال. ولكن الحافظ لم يصل إلى أميركا اللاتينية إلا في عام 1962، أي بعد استقرار كوهين  بدمشق. إضافة إلى أنه لم يكن هناك منصب نائب وزير دفاع في سورية يومها، وقد استحدث بعد عام 1970، أي بعد إعدام كوهين بأكثر من خمس سنوات.

***

 

 

 

 

 

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *