كيف أنهى قرار التأميم الشركة الخماسية
سامي مروان مبيّض – رصيف 22 (16 حزيران 2022)
في مطلع العام 1945، اجتمع خمسة تجار من كبرى عائلات دمشق، وقرروا توحيد رأس مالهم وجهودهم في مشروعٍ اقتصادي ضخم عُرف باسم “الشركة التجارية الصناعية المتحدة المساهمة المغفلة”، أو “الخماسية” نسبة لمؤسسيها الخمسة. وهم أنور القطب، دياب أخوان (أمين، مسلّم، وبدر الدين دياب)، الإخوان محمد عادل وواصل الخجا، عبد الحميد وشفيق دياب (أولاد الحاج ياسين دياب)، وشركة رباط ودسوقي (عبد الهادي الرباط وأنور الدسوقي).
حقق هؤلاء الصناعيون والتجار إنجازاً باهراً، ليس فقط على مستوى سورية، بل في العالم العربي كله، ارتبط عضوياً مع العصر الذهبي للاقتصاد السوري في خمسينيات القرن العشرين. ولو سُمح للتجربة أن تنمو وتستمر، لكانت نقلت الجمهورية السورية الوليدة من العالم الثالث إلى أرفع درجات الدول الصناعية الحديثة، ولكنها أُجهضت كلياً في زمن الوحدة، وتعرّض أصحابها لأبشع أنواع الترهيب، لتتحول “الشركة الخماسية” من قصة نجاح عظيمة إلى مأساة رهيبة.
كيف بدأت الخماسية؟
بدأت فكرة المشاركة أيام الحرب العالمية الثانية، عندما فرضت الحكومة السورية حصصاً صغيرة على الاستيراد، عُرفت بنظام “الكوتا”، منعت الأفراد من جني مال مرضٍ من تجارتهم، فاجتمع عدد من التجار وصاروا يجمعون “الكوتا” المسموحة لكل واحد منهم ليستوردوا كميات أكبر من البضائع في آن واحد، يكون ربحها التجاري أكبر ويتم توزيعها عليهم بحسب حصة كل واحد منهم. أدى هذا الظرف إلى تعاون بين العائلات التجارية الخمس، فشكلوا مجموعة تجارية تحولت لاحقاً لتصبح “الشركة الخماسية.”
في شباط 1945، اجتمع رئيس الجمهورية شكري القوتلي معهم وقال إن السفير البريطاني في دمشق، إدوارد سبيرز، زاره وطلب من سورية تأمين ثمن عشر طائرات مقاتلة من طراز “سبيت فاير” لصالح الجيش البريطاني، وهي أشهر المقاتلات الحربية في الحرب العالمية. كان القوتلي عائداً من لقائه الشهير في القاهرة مع رئيس وزراء بريطانيا، ونستون تشرشل، حيث وعد الأخير بدعوة سورية لتكون من مؤسسي منظمة الأمم المتحدة التي كانت على وشك أن ترى النور.
في مدينة سان فرانسيسكو الأميركية، ولكي يتم دعوة سورية للمشاركة، طلب تشرشل من القوتلي أولاً إعلان الحرب على دول المحور، وتأمين مساعدة رمزية للمجهود الحربي البريطاني. نظر القوتلي إلى التجار وقال لهم: “هذا واجب وطني، وأنا واثق من دعمكم المطلق له، فلو ذهبنا إلى الأمم المتحدة نستطيع أن نرفع صوتنا عالياً ونطالب المجتمع الدولي باستقلالنا دون أي قيد أو شرط.”
هبَّ التجار الخمسة للمساعدة، وقاموا بجولات على المحافظات السورية لتأمين المبلغ المطلوب لشراء الطائرات، تم تأمين ثمن طائرتين في حلب عن طريق الصناعي سامي صائم الدهر والحاج وهبي الحريري، قيمة الواحدة منهم خمسون ألف ليرة سورية، وجمع ثمن ثلاث طائرات إضافية من تجار حمص وحماة واللاذقية، وقام الدمشقيون بجمع ثمن خمس طائرات وقدموه للقوتلي الذي قدمه بدوره إلى تشرشل، فور إعلانه الحرب على كل من اليابان، إيطاليا وألمانية النازية.
رأس المال الأكبر في تاريخ سوريا الصناعي
كانت الطبابة في الشركة “الخماسية” مجانية، ويصرف لعمالها راتب شهر إضافي في نهاية كل عام. إضافة لخمسة وعشرين بالمئة من أرباح الشركة، توزع عليهم في نهاية السنة المالية. وهي أول شركة سورية تُدخل المكيفات الحديثة على صالات عُمّالها
أُسست “الشركة الخماسية” في مكتب أولاد الحاج ياسين دياب، وتبعها مرسوم ومباركة شخصية من الرئيس القوتلي يوم 9 كانون الثاني 1946، وكانت الحكومة السورية في عهده تولي الملف الاقتصادي اهتماماً بالغاً، وهي على وشك إعلان جلاء كافة الجيوش الأجنبية عن أراضيها، والذي تحقق بالفعل بعد ثلاثة أشهر فقط من ولادة “الخماسية”، في 17 نيسان 1946. حُدد رأس مال”الخماسية” بعشرة ملايين ليرة سورية، وتم رفعها عام 1948 إلى خمسة عشر مليوناً لشراء معمل للنسيج من أمريكا، قوامه 400 آلة نول، بعد أن قرر المؤسسون توسيع أعمالهم لتشمل الصناعة والتجارة معاً. كان هذا الرأس مال هو الأكبر في تاريخ سورية الصناعي، في وقت كانت ميزانية الدولة لذلك العام لا تتجاوز 107 مليون ليرة سورية.
بدأت “الخماسية” الإنتاج في معمل غزل القطن والحرير، وتنوّعت أنشطتها لتشمل التريكو، صبغ الأقمشة ثم بيعها في الأسواق المحلية والعالمية، قامت أيضاً بشراء معمل للصابون مجاور لمعملها في منطقة القابون، وأسست مصنعاً للصابون الكيماوي أسمته “رايد”، أضيف الصابون والزيوت النباتية لمنتجات “الخماسية”، كما ساهم المؤسسون الخمسة في معامل صناعة السكر والزجاج وفي محالج القطن في مدينتي حماة وإدلب.
ولتلبية حاجاتها الإنتاجية الضخمة، قامت “الشركة الخماسية” بإنشاء محطة خاصة لتوليد الكهرباء لمنشأتها الصناعية، ووصل عدد عمالها وموظفيها إلى 4735، معظمهم من غوطة دمشق أو من اللاجئين الفلسطينيين الذين ألقوا عصا الترحال في سورية، بعد حرب عام 1948. عند تبديل الورديات، كان طريق القابون يقفل تماماً نتيجة الازدحام الشديد من تدفق العمال، وكان الناس يتهافتون على إيجاد فرصة عمل في الخماسية نتيجة حسن معاملة أرباب العمل، فكانت طبابتهم مجانية، ولهم راتب شهر إضافي في نهاية كل عام، إضافة لخمسة وعشرين بالمئة من أرباح الشركة، توزع عليهم في نهاية السنة المالية، تصل أحياناً إلى 250 ألف ليرة سورية، ولعل “الخماسية” كانت أول شركة سورية تُدخل المكيفات الحديثة على صالات عُمّالها.
قرار التأميم
في مطلع الخمسينيات، أصبحت “الشركة الخماسية” معلماً من معالم سورية الحديثة، تدرج زيارة منشأتها على جدول أعمال كبار الزوار وضيوف الدولة، مثل ملك الأردن الشاب، الحسين بن طلال، الذي جال في معامل “الخماسية” عند زيارته دمشق عام 1956، وتلاه العاهل السعودي، سعود بن عبد العزيز، وعند اعلان الوحدة مع مصر في شباط 1958، تفاءل مؤسسو الخماسية برئيسهم الجديد جمال عبد الناصر، وشاركوا الشعب السوري احتفالاته التي استمرت سبعة أيام بلياليها.
حضروا جميعاً حفل تكريم أقامتهُ غرفة تجارة دمشق للرئيس القوتلي في نادي الشرق، بعد تنازله عن الحكم لصالح الرئيس عبد الناصر، وخطب أحد المؤسسين، عادل الخجا، الذي كان رئيساً لغرفة التجارة يومها، مخاطباً عبد الناصر بالقول: “نحن تجار دمشق وصناعيها نأمل منكم يا سيادة الرئيس أن تكونوا خير خلف لخير سلف”. في خريف عام 1960 زار دمشق عزيز صدقي، وزير الصناعة المركزي في جمهورية الوحدة، وأقيمت له مأدبة عشاء في نادي الشرق أيضاً، حضرها جميع أعضاء مجلس إدارة الخماسية، خطب خلالها الضيف المصري موجهاً كلامه للصناعيين بالقول: “نتأمل منكم أن تعملوا لأجل توسيع أعمالكم ورفع جودة منتجاتكم في الإقليم الشمالي، وهذا رجاء سيادة الرئيس جمال عبد الناصر.”
مع ذلك فقد تخوف مؤسسو الخماسية من منافسة حادة كانت تواجههم من شركة مصر للغزل والنسيج في مدينة المحلة الكبرى، والتي تأسست برأس مال 300 ألف جنيه، وكانت تحتوي على 12 ألف مغزل وتستهلك مليون قنطار من القطن، وهو أضعاف استهلاك سورية وقدرتها الإنتاجية. لم يتوقع أحد منهم أن يكون التأميم على الأبواب، على الرغم من صدور قانون الإصلاح الزراعي الذي طال أحد مؤسسي الخماسية، عبد الحميد دياب، وصادر خمسة وعشرين ألف دونم من أراضيه في مدينة الشدادة في الحسكة، و306 دونمات في بلدة سعسع في ريف دمشق.
دخل عبد الحميد السراج، وزير الداخلية، على مبنى “الشركة الخماسية” يوم تأميمها في تموز 1961، للإشراف على عمليات الاستملاك بنفسه، مع العلم أنه كان يزور الشركة باستمرار مع الوفود القادمة من مصر ويتظاهر بالود تجاه مؤسسيها. خرج بعض العمال الناصريين إلى بهو المؤسسة في استقباله وصاحوا: “تسقط الشركة الخماسية! أمم، أمم، أمم!” في ذلك اليوم، كان مجلس الإدارة منعقداً في الصباح الباكر، بغياب عادل الخجا المسافر إلى أوروبا، بعد عودته من تخرُّج أحد أبنائه من جامعة بيركلي الأميركية.
في كوبنهاغن، عاصمة الدنمارك، استقبله القنصل السوري فائز النحلاوي، وأخبره بخجل: “يا عادل بك، يقال إن قراراً قد صدر في القاهرة هذا الصباح يقضي بتأميم كافة المصانع والشركات”، أما الحاج أمين دياب، فقد صادف أحد أبنائه في أحد شوارع دمشق، والذي كان يعمل في الخماسية مع أبيه، فزف له الخبر وهو متلعثم اللسان من شدة الانفعال. لم يتجه أمين دياب إلى مقر الشركة في القابون، بل إلى منزل شقيقه بدر الدين دياب، رئيس مجلس الإدارة، خوفاً عليه من أي مكروه عند سماع الخبر، كونه كان يعاني من مشاكل صحية في القلب.
دخل الحاج أمين على شقيقه الأصغر في بيت الأخير في ساحة الروضة، وقال له: “لا داعي للانزعاج، فهذا قضاء الله وقدره. أنت مؤمن يا أخي، والحمد الله أنك بصحة جيدة، ولا اعتراض على حكمته وعدله، فهو الذي أعطى وهو الذي أخذ. أما نحن، فبيت دياب سيبقون كما كانوا دوماً في دمشق، مرفوعي الرأس، لا تكسرهم الشدائد ولا تزيدهم المحن إلا في الإيمان والمضي قدماً في عملهم! ”
الخماسية في ظل الجمهورية المتحدة
حافظت جمهورية الوحدة على بعض موظفي “الشركة الخماسية” من عائلات المؤسسين، فبقي نجم الدين دياب، ابن الحاج أمين، مديراً مالياً حتى إحالته على التقاعد عام 2003، وكذلك شقيقه فائق دياب، استمر في إدارة المصبغة، وعبد الرحمن دياب ابن الحاج بدر الدين، الذي استمر في عمله مديراً للتكاليف، ومن أسرة عادل الخجا، فقد بقي نجله محمود مديراً للإنتاج، وشقيقه واصل الخجا مديراً لمبيعات الغزل.
صادف افتتاح معرض دمشق الدولي السابع بعد شهرين من صدور قرارات التأميم، حضره المشير عبد الحكيم عامر، نيابة عن الرئيس عبد الناصر. بعد انتهائه من التقاط الصور التذكارية على السجاد الأحمر، تجول المشير في أجنحة المعرض، وخص جناح المنتجات الصناعية الوطنية، ومعظمها كان قد أصبح ملكاً للقطاع العام، توقف عند جناح “الخماسية” فوجد السفير سليم اليافي، وهو رجل دمث وخلوق من أرقى سفراء الخارجية السورية يومها. وقد عيّنه الرئيس عبد الناصر أول مدير على الشركة بعد تأميمها، يعاونه ضابطان سوريان، العقيد محمد النسر، أحد الذين سافروا إلى مصر لطلب الوحدة عام 1958، وفيصل سري الحسيني، الذي أصبح لاحقاً من أشهر ضباط الانفصال.
تحدّث المشير عن غلاء منتجات الشركة، ولمح بأن أصحاب “الخماسية” كانوا يجنون أرباحاً طائلة من ورائها، طالباً من اليافي تخفيض الأسعار، رد السفير اليافي قائلاً: “من اللحظة الأولى التي تسلمتُ فيها مهمتي للإشراف على أعمال الشركة ومراقبة تنفيذ قرارات التأميم قُمت بمثل هذه الدراسة، وكانت النتيجة أنه ليس بالإمكان تخفيض الأسعار عما كانت عليه من قبل، لأن أرباح الشركة كانت محدودةً جداً”.
طبعاً لم يعجب الجواب المشير عامر أبداً وغادر الجناح بغضب، وهو يلعن الخماسية والقائمين عليها قبل التأميم.
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!