كلمة حق في وداع بسام الملّا

 

سامي مروان مبيّض (دمشق، 31 كانون الثاني 2022)

 

منذ سنوات كتبت مقالاً مطولاً بينت فيه الأخطاء التاريخية التي وقع فيها الجزء الأول من مسلسل “باب الحارة”، تحدثتُ فيه عن موضوع باب الحارة نفسه، الذي أظهرهُ العمل بأنه كان يُحرس ليلاً ولا يُفتح بعد المغيب إلّا للأهالي. هذا الكلام ينطبق على مدينة دمشق في زمن الغزوات والحروب وليس في زمن السلم لأن دمشق كانت دوماً مدينة نور وعلم وتجارة، لا تُقفل أبوابها أمام الغريب بل تستقبله بأياد مفتوحة، وهي لم تغلق أبوابها يوماً أمام كل من لجأ إليها عبر التاريخ باحثاً عن علم أو مسكن آمن، هارباً من جوع أو عطش أو خوف في بلاده.

تساءلت مستغرباً أننا لم نر سينما واحدة في “باب الحارة،” ولا جريدة أو قصيدة شعر، علماً أن دمشق في مطلع الثلاثينيات كانت مدينة متطورة ومتنورة للغاية، فيها صناعة سينما، ومسارح، وقانون سير، وترامواي، وندوات أدبية، وحفلات موسيقية لأكبر الفنانين العرب. كانت دمشق مسرحاً لنشاط سياسي رفيع، فيها أحزاب وتظاهرات نسائية ورجال فكر وقانون وجامعة عصرية قل مثيلها في العالم العربي. أعيان دمشق يومها كانوا شكري القوتلي وعبد الرحمن الشهبندر وفارس الخوري، وليس الخضري والقهوجي والحلّاق والفرّان، مع فائق الاحترام لتلك المهن النبيلة.

كان جواب بسّام الملّا أنه لم يدعي يوماً أنه يوثق لتاريخ مدينة دمشق، التي أحبها وشبّ في حاراتها الضيقة والمتعرجة. عائلته أصلها من بعلبك، انتقلت إلى اللاذقية أولاً ثم إلى باب الجابية وأخيراً إلى حيّ ركن الدين حيث ولد سنة 1956. أمه لبنانية من عائلة الحلّاق ووالده الفنان الراحل أدهم الملّا، الذي أدخله إلى التلفزيون السوري (قسم المحاسبة) في السبعينيات، علماً أنه لم يكن قد أكمل تحصيله المدرسي. وفي التلفزيون، بدأ يتعرف على النجوم والمخرجين، وكانت له تجارب ناجحة جداً في إخراج برامج منوعات، كان أشهرها “بساط الريح” مع الإعلامي الكبير مروان صواف.

نقطة التحول في مسيرته الفنية كانت سنة 1989 مع إخراجه للجزء الأول من مسلسل الأطفال الشهير “كان يا مكان،” الذي كتبه وأنتجه الراحل داوود شيخاني، وقد حقق نجاحاً عربياً كبيراً. لم يُشارك الملّا في الجزء الثاني من “كان يا مكان”، الذي أخرجه المخرج أيمن شيخاني، بل انتقل إلى إخراج مسلسل ثاني بعنوان “الخشخاش،” كان من تأليف الدكتور فؤاد شربجي، وقد ترك بصمة راسخة في ذاكرة المشاهد السوري. وبعدها بعام، كان عمله الثالث والأشهر، “أيام شامية” الذي قال فيه النقّاد أنه خلّد كل من شارك به من نجوم.

وبعد النجاح الكاسح الذي حققه “أيام شامية” انطلقت سبحة بسّام الملّا الكلاسيكية: “العبابيد” (1996)، “الخوالي” (2000)، “ليالي الصالحية” (2004)، وصولاً إلى “باب الحارة” سنة 2006. طوال هذه المسيرة ولغاية عرض الجزء الأول من “باب الحارة” لم يوجه أحد أي لوم لبسّام الملّا بالمطلق، بل تعامل معه الجميع على أنه مجدد مبتكر ومخرج أصيل، أظهر أجمل ما في مدينة دمشق من شهامة ومروءة ونبل. وكان شديد الحرص على مفهوم الحب في كل هذه الأعمال: حب الناس لبعضها، حب الأولاد لأهلهم، حب أهل الحارة للحارة وحب الوطنيين لبلادهم.

ثم جاء مسلسل “باب الحارة” الذي حقق نجاحاً عربياً منقطع النظير، مع موجة من الانتقادات المحلية وصلت إلى حد المطالبة بمحاكمة بسّام الملّا بتهمة “التزوير والتشويه التاريخي.” مع كل التحفظات على هذا المسلسل، إلا أن هناك الكثير من المبالغة في هذا الطرح، فالمسلسل لم يدع يوماً أنه عمل توثيقي، لا في إعلاناته التجارية أو في شارته، ولا في أي تصريح لمخرجه أو أحد أبطاله. بل نحن الذين ألصقنا هذه الصفة به، والتي هي أكبر منه بكثير، ومع الأسف تم التعامل معه داخل سورية وخارجها على هذا الأساس، على أنه “ملحمة دمشقية تاريخية.”

ليس دفاعاً عن “باب الحارة” ولكن ما الفرق بين شخصية “أبو بدر” وزوجته “فوزية” وبين “ياسينو” وزوجته “فطوم” في مسلسل صح النوم الكوميدي الأشهر في تاريخ الدراما الذي عرض قبل ثلاثة عقود من “باب الحارة؟” حارة الضبع افتراضية، تماماً مثل “حارة كل مين أيده ألو.” صحيح أن “باب الحارة” أظهر سيدات دمشق بشكل متخلف، ولكن ما الفرق بينه وبين مشاهد “أيام شامية” التي يضرب بها الراحل خالد تاجا زوجاته بالخيزران؟ في “أيام شامية” ضحك السوريون كثيراً ولكن في “باب الحارة” عبسوا وانتفضوا غضباً.

الفرق الوحيد في الصفة التي ألصقت بباب الحارة، أي “الملحمة التاريخية،” وهي التي لم تقال لا في “صح النوم” أو في “أيام شامية.” كل هذه الأعمال مسلسلات ترفيهية تجارية لا أكثر، ويجب التعامل معها على هذا الأساس فقط. لو أراد أحد أن يعرف تاريخ دمشق الحقيقي فعليه بقراءة مراجع علمية وكتب بدلاً من مشاهدة الأعمال التلفزيونية التجارية. لا تنسوا أن هذه الأعمال تبقى تجارية بالمطلق، هدفها الوحيد هو البيع والرواج وليس التوثيق أبداً.

عودة لبسّام الملّا، الذي رحل عن عالمنا يوم أمس، عن عمر ناهز 66 عاماً. وداعاً يا آغا، لقد تركت بصمة في الدراما السورية والعربية، وأعمال خالدة في ذاكرتنا الجماعية. قد نختلف كثيراً مع “باب الحارة،” ولكن لا خلاف على “ليالي الصالحية” و”الخوالي،” ولا خلاف طبعاً على “أيام شامية،” فجميعها قد دخلت موسوعة التاريخ الفني من أوسع أبوابه.

***

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *