عبد الجبار عبد الله عالم الفيزياء العراقي الذي حاول السيطرة على الطقس

سامي مروان مبيّض (المجلة، 6 تموز 2024)

تداول نشطاء عراقيون صورة لعالم الفيزياء العراقي عبد الجبار عبد الله، الرئيس الأسبق لجامعة بغداد، واقفاً إلى جانب العالم الكبير ألبرت آينشتاين في جامعة برينستون سنة 1952. أضافوا على المنشور الذي انتشر مثل النار في الهشيم تعليقاً بأن آينشتاين أهداه قلماً، سُرق منه أثناء اعتقاله في بغداد سنة 1963.

أوضح الموقع الرسمي للدكتور عبد الله على الإنترنت أن هذه الصورة مزيفة، وأنه لم يلتقِ آينشتاين في حياته، ولم يأخذ منه قلماً. تُضاف القصة – على الرغم من جمالها – إلى آلاف المنشورات المغلوطة التي تنشر يومياً على شبكة الإنترنت، حيث لا رقابة على المنشورات ولا تدقيق تاريخياً، ويمكن لأي منها حتى لو كانت مغلوطة بشكل كامل، أن تنال إعجاب ملايين المشاهدين.

 

أ ف ب

ألبرت آينشتاين

منها مثلاً ما يقول إن الرئيس السوري شكري القوتلي قال لجمال عبد الناصر عند قيام الوحدة السورية المصرية سنة 1958: “لقد سلمتك يا سيادة الرئيس شعباً نصفه زعماء ونصفه الآخر يعدون أنفسهم أنبياء أو آلهة.” عُدنا إلى عائلة الرئيس القوتلي التي أكدت أن هذه القصة مغلوطة تماماً ولا أساس لها، وأن من أطلقها كان الصحافي المصري محمد حسنين هيكل في زمن الانفصال.

ومثلها تظهر الكثير من الأبيات الشعرية التي تنسب زورا إلى نزار قباني، والقول إن رئيس وزراء سورية فارس الخوري تسلم وزارة الأوقاف في مرحلة الأربعينات وهو مسيحي من الطائفة البروتستانتية. لو تعمق رواد “فيسبوك” قليلا لوجدوا أن وزارة الأوقاف لم تكن موجودة أصلاً في حينها، وأن الخوري لم يتسلمها قط في حياته. أما بالعودة إلى الدكتور عبد الجبار عبد الله، فقد كانت له مسيرة علمية حافلة، لا يغنيها شيء، ولا ينتقص منها شيء سواء التقى بأينشتاين أو لم يلتق به. أطلق اسمه على شوارع عدة، وقاعة في جامعة بغداد، ونصب له تمثال في العراق، تقديراً لجهوده، ومع اقتراب ذكرى وفاته في 9 يوليو/تموز 1969، تنشر “المجلة” لمحة سريعة عن حياته القصيرة، التي انتهت وهو في السادسة والخمسين من عمره إثر مرض عضال.

من الفقر المدقع إلى كبرى جامعات أميركا

ولد عبد الجبار عبد الله في محافظة ميسان شرقي العراق يوم 14 نوفمبر/تشرين الثاني 1913، قبل أشهر من اندلاع الحرب العالمية الأولى. عاش طفولة بائسة ومثقلة بالفقر، علماً أن والده كان رئيسا لطائفة الصابئة المندائية في بلدته. درس المرحلة الابتدائية في لواء العمارة، ونال الشهادة الثانوية من الثانوية المركزية في بغداد، وقد حصل على منحة لدخول الجامعة الأميركية في بيروت، نظراً لتفوقه في علوم الرياضيات والفيزياء، وطلاقة لسانه بالإنجليزية والألمانية والآرامية، لغة السيد المسيح.

أيد الدكتور عبد الله الثورة العراقية من حيث المبدأ، ولكنه كان معارضاً للطريقة الوحشية التي قُتل بها الملك فيصل الثاني مع سائر أفراد أسرته وسحل رئيس الوزراء نوري السعيد

 

 

سافر إلى لبنان بحراً من ميناء البصرة، وكانت له تجربة غنية فيه، نظراً لنواديه الثقافية وكتاباته ومسارحه وحركة النشر النشطة فيه. أدخلته بيروت في عالم آخر مختلف كل الاختلاف عن المجتمع المحافظ والفقير الذي عرفه في بغداد أثناء سنوات شبابه المبكر، وعند تخرجه في بيروت سنة 1934، أكمل تحصيله العلمي في جامعة MIT الأميركية العريقة في بوسطن، متخصصاً في علوم الأنواء الحيوية وعلم الأرصاد الجوية. نشر أبحاثا وكتباً في جامعة MIT ابتداء من سنة 1946، وتلقى عروضاً مغرية للبقاء في أميركا والانضمام إلى هيئتها التدريسية، ولكنه رفضها كلها، وقرر العودة إلى العراق للمساهمة في نهضته العلمية والزواج من قسمت عنيسي الفياض سنة 1943، وهي مدرّسة ابتدائية كان والدها صائغ الملك غازي الأول في السنوات 1933-1939.

العودة إلى العراق ورئاسة جامعة بغداد

عُين عبد الله أستاذ ورئيس قسم الفيزياء في دار المعلمين العليا، التي دُمجت مع جامعة بغداد عند تأسيسها، وأصبحت كلية التربية. سمي عضواً في مجلس الجامعة التأسيسي، وأتته الفرصة للعودة إلى أميركا أستاذاُ زائراُ في جامعته الأم، جامعة MIT، حيث عمل على دراسة حركة الأمواج ونشوء الأعاصير. بعدها بثلاث سنوات، عُين رئيساً لمجلة المجمع العلمي العراقي، وأميناً عاماً لجامعة بغداد، ثم رئيساً لها سنة 1959، وذلك في مطلع عهد الرئيس عبد الكريم قاسم، بعد قرابة السنة من ثورة 14 يوليو/تموز التي أطاحت بالحكم الملكي في بغداد.

أيد الدكتور عبد الله الثورة العراقية من حيث المبدأ، ولكنه كان معارضاً للطريقة الوحشية التي قُتل بها الملك فيصل الثاني مع سائر أفراد أسرته وسحل رئيس الوزراء نوري السعيد. تحمس للشعارات الاشتراكية البراقة التي أطلقها عبد الكريم قاسم، ووعوده بالنهوض بالقطاع التعليمي، وجعله مجاناً لكل العراقيين دون التفريق بين دينهم ومنبتهم الاجتماعي. ازدهرت جامعة بغداد في عهده، وأرسل مئات الطلاب المتفوقين لإكمال دراساتهم العليا في بلدان “حيادية” ليس لها تاريخ استعماري في المنطقة، بدلاً من الجامعات البريطانية التي كان يقصدها العراقيون في زمن الانتداب.

الاعتقال والمنفى

ولكن رئاسته الجامعية لم تستمر إلا مدة قصيرة حتى سنة 1963، يوم صدور قرار اعتقاله عرفياً إبان الانقلاب العسكري الذي أطاح بعبد الكريم قاسم وأودى بحياته رمياً بالرصاص. وقع الانقلاب على يد مجموعة من الضباط البعثيين في 8 فبراير/شباط، واعتقل عبد الله في صبيحة اليوم التالي دون توجيه أي اتهام إليه. السبب الوحيد أنه كان محسوباً على العهد البائد، ولكثرة ما كان عبد الكريم قاسم يمتدحه في مجالسه. ظنّ الانقلابيون أنه منتسب إلى حزب معارض، وبعد التحقيق معه تبينت براءته من أي انتماء سياسي، وأطلقوا سراحه صباح يوم 8 أكتوبر/تشرين الأول 1963.

اعتمدت الحكومة العراقية على خبرة تلاميذ عبد الله من العلماء الشباب، قبل أن يصل صدام حسين إلى سدة الحكم ويسخرهم لتطوير أسلحته، لمحاربة إيران سنة 1980 وغزو الكويت سنة 1990

 

 

بعد خروجه من السجن، وجد عبد الله نفسه معزولاً من رئاسة الجامعة، فعمل في مركز البحوث الوطنية في العراق، ثم قرر الرحيل بعد رفع منع السفر عنه، وتوجه إلى أميركا التي كان قد رفض العيش فيها شاباً. عُين باحثاً في مركز أبحاث الغلاف الجوي في ولاية كولورادو، ثم عضواً في الهيئة التدريسية في قسم الغلاف الجوي التابع لجامعة نيويورك. حصل على منحة لدراسة التقسيم الطبقي للسحاب، وكيفية التحكم في الطقس، ولكنه توفي قبل أن يكمل أبحاثه ودفن في أميركا سنة 1969.

كان العراق يومها قد حصل على مفاعله النووي من الاتحاد السوفياتي، الذي كان من المفترض أن يأتي من الولايات الأميركية لولا ثورة 14 يوليو 1958. ذهب المفاعل الأميركي إلى شاه إيران، وتمكن العراق من تشغيل مفاعله سنة 1967، قبل عامين من وفاة عبد الجبار عبد الله.

الدكتور عبد الله (الصف الأول، الثالث من اليسار) مع زملائه وطلابه في كلية المعلمين العليا، 1954

وفي بغداد، اعتمدت الحكومة على خبرة طلابه الكثيرين من العلماء الشباب، قبل أن يصل صدام حسين إلى سدة الحكم ويسخرهم لتطوير أسلحته، لمحاربة إيران سنة 1980 وغزو الكويت سنة 1990. معظمهم قبلوا مرغمين، ومن رفض منهم كان مصيره الاعتقال أو الاغتيال، فيما انشق البعض، وفي مقدمتهم عالم الذرة الدكتور خضر حمزة، تلميذ عبد الجبار عبد الله، والذي بفضله درس الفيزياء النووية في جامعة MIT وعاد للعمل في مخابر السلاح العراقية حتى هروبه إلى الولايات المتحدة سنة 1994. كتب عنه الإعلام الأميركي يومها ووصفه بلقب “صانع قنابل صدام”، وقد أعطى شهادة أمام المشرعين الأميركيين عن برنامج سلاح صدام الجرثومي والبيولوجي قبيل غزو العراق سنة 2003.

***

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *