ظلّ يكتب…ويكتب…ويكتب
سامي مروان مبيّض – صحيفة الأهرام (القاهرة، 9 أب 2022)
فى مايو 1877، وبعد شهرين من مغادرته البيت الأبيض، قرَّر الرئيس الأمريكيّ الثامن عشر يوليسيس جرانت القيام بجولة عالميّة مع أفراد أسرته، استمرّت سنتين ونصف السنة. وقد مرَّ الرئيس الأمريكي بدول العالم القديم؛ من أوروبا وإفريقيا والصين وصولاً إلى الوطن العربي. حطّت سفينته في ميناء الإسكندريّة يوم 5 كانون الثاني (يناير) 1878، ومنها انطلق إلى زيارة القاهرة حيث حلّ ضيفاً على الخديوي إسماعيل، وبعدها إلى القدس.
عاد جرانت إلى بلاده مُفلِساً، وهو في الخامسة والخمسين من عمره. جاءه الروائيّ الأمريكي الشهير مارك تواين، وعرض عليه أن يكتب مذكرات عن فترة حكمه فى البيت الأبيض، وسنوات عمله العسكري قائداً لجيوش الاتّحاد في الحرب الأهليّة الأمريكيّة.
اعتذر جرانت، وقال إنّه لا يجيد فنّ الكتابة.
دخل بعدها فى تجارة فاشلة مع نصّاب أمريكي، واستثمر فيها 150 ألف دولار، قام باستدانتها من رجل أعمال معروف في مدينة نيو يورك. انتهى به المطاف أمام المحاكم وفى جيبه ما لا يزيد على 231 دولاراً أمريكيّاً. لم يتمكّن من سداد الدين، وعرض أن يرهن منزله، ولكن التاجر طلب منه ما هو أثمن من العقار: أوسمته الحربيّة فى الحرب الأهليّة.
رهن جرانت الأوسمة، وعاش أيّامه بحزن شديد، وكآبة مفرطة. عاد مارك تواين مُكرِّراً عرضه القديم: أن يضع جرانت مذكراته، وفى هذه المرة وافق الرئيس وقرَّر نشرها على حلقات فى إحدى المجلّات الأمريكيّة، مقابل 500 دولار للحلقة الواحدة.
ثم جاءت دار نشر وعرضت جمعها فى كتاب مقابل إعطاء الرئيس المُفلِس 10٪ من الأرباح. ولكنّ تواين الخبير في الكتابة والنشر عرض عليه عرضاً مختلفاً: 70 بالمائة من الأرباح، شرط أن تنشر في الدار التي كان يملكها.
قضى جرانت أيّامه الأخيرة في الكتابة من دون انقطاع، واكتشف أنّه موهوب، وأن قلمه على الورق لا يقل روعة عن أدائه في الحروب والسياسة. أصيب بمرض سرطان الحنجرة الذي أفقده الكثير من قدراته، ولكنه ظلّ يكتب…ويكتب…ويكتب.
تمكن غرانت من كتابة جزءين من المذكرات، ولكن التراجع الكبير فى صحّته منعه من مراجعة النص، فصارت زوجته تقرأ عليه المسوَّدات. وقد توفي الرئيس جرانت قبل الانتهاء من سماع الجزء الأول، ولم يعلم أن الكتاب حقّق نجاحاً باهرًا، ودرّ على أسرته 450 ألف دولار أمريكيّ من الأرباح، أي ما يعادل 13 مليون دولار بحسب قيمة اليوم.
مغزى القصّة: الكتابة فى الغرب كانت وستبقى عملاً نبيلاً ومُجدِياً من الناحية المادّيّة والمعنويّة، إن توافرت فيها قصّة متينة، وأسلوب رشيق مع دار نشر قديرة ومتمكّنة.
أكتب هذه السطور أسفاً على مذكِرات قادة الوطن العربي، فالكثير منها لم تحقّق أيّ ربح يُذكر لأصحابها مثل مُذكِّرات الرئيس المصري الراحل اللواء محمّد نجيب، التي جاءت بعنوان أليم: “كنت رئيسا لمصر.”
أمّا مذكرات بطل الاستقلال اللبناني الرئيس الشيخ بشارة الخوري الشيّقة بأجزائها الثلاثة فهي نافدة تماماً من الأسواق، ولم يُعَد طبعها منذ مطلع ثمانينيّات القرن العشرين نظراً لعدم الإقبال عليها.
والكثير من الزعماء العرب وضعوا مذكرات، وماتوا قبل أن ترى النور، أو أنهم لم يتمكنوا من منع عمليات القرصنة المتتالية التي تعرَّضت لها، فهي اليوم تُباع على أرصفة الشوارع من دون حقوق أو أي عائد لأسرهم، مثل مذكرات رئيس وزراء سورية الأسبق خالد العظم.
للمقارنة، فإنّ الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون قبض سلفة 15 مليون دولار عن مذكراته الشهيرة “حياتي” سنة 2004، و21 مليوناً من أرباح المبيعات، وقد حصلت زوجته على 11 مليون دولار مقابل مذكراتها “خيارات صعبة،” أمّا الرئيس باراك أوباما فقد قبض 65 مليون دولار على مُذكِّراته الأخيرة قبل سنتين.
فى عالمنا العربي، لا يوجد سلفة على الكتابة ولا أرباح، ولكن هناك كتّاباً مرموقين، تحديداً من أبناء الجيل الجديد، متألّقون ومبدعون، نالوا نصيبهم من الشهرة، ولكن عائدات الكتابة ظلّت متواضعة بالنسبة اهم، إما بسبب قرصنة الكتب وضعف قوانين الحماية الفكريّة، أو انعدامها، مع انهيار قطاع النشر في الوطن العربي.
جميعهم، مع مَن سبقهم من أدباء، لا يقلّون أهميّة وإبداعاً عن الرؤساء كلينتون وأوباما والرئيس غرانت بطل هذا المقال.
***
ربما لان زعماؤنا لا يجرؤون على كتابة الحقيقة.. لذلك فالشعب لن يعول على ما سيقرأ.. مع كامل الاحترام