صيف عام 1939

 

 

سامي مروان مبيّض – صحيفة الأهرام (القاهرة، 18 آب 2021)

 

فى سنة 1939، زار ملك العراق فيصل الثاني لبنان، وهو في الرابعة من عمره، لقضاء إجازة صيف مع أمّه الملكة عالية.  جاءهم الأمير عادل أرسلان، مستشار جدّه الملك فيصل الأول فوجد فيصل الصغير يلعب في حديقة الفيلا. كان فيصل…مثله مثل كل الأطفال…يحب الأسئلة كثيراً فنظر إلى الضيف اللبناني وسأله ببراءة: “من أنت؟”

أجابه الأمير عادل: “أنا عادل أرسلان صديق جدّك.”

– ولماذا أنت هنا؟

– لأطمئن على صحة جلالتكم.

– ليش لابس طربوش؟

– لأحمى رأسي من الحر….

هنا طلب منه الملك أن يخلع الطربوش، ففعل.

– وليش شعرك أبيض؟

-لأسباب كثيرة يا مولاي‪.

لم يستفيض الأمير عادل أكثر من ذلك، ولم يشرح للملك الصغير سبب الشيب الذي غطى رأسه. فيصل نفسه لم يعرف الشيب فى حياته القصيرة، فقد قتل وهو في الثالثة والعشرين من عمره، مع بقية أفراد الأسرة الهاشمية الحاكمة في العراق سنة 1958. لو عاش لكان بلغ السابعة والثمانين من عمره اليوم، ولكان شاب فعلاً وهرم…أمام ما تمر به بلاده من مصائب اليوم.

فمدينة بغداد التي ولد فيها فيصل الثاني ومات…تستيقظ على أصوات المولدات وتغدو على أزيز الرصاص. وكذلك قصر نقولا بسترس في مدينة عاليه اللبنانية الذي كان يقضى فيه الملك الطفل إجازة صيف عام 1939…هو أيضاً مظلم وكئيب، لا يدخله إلا نور القمر، مثله مثل جميع دور لبنان وسورية التي تعاني انقطاعا كبيراً في الكهرباء.

في أحد مواويل الفنان العراقي الراحل ناظم الغزالي ترد عبارة شهيرة: “عيّرتني بالشيب وهو وقار…ليتها عيرتني بما هو عار.” في زمن مضي، كان الشيب فعلاً رمزاً للوقار والرجولة والحكمة، ولكنه أصبح اليوم يرمز إلى حياة قاسية مليئة بالمتاعب والتحديات في كل من بغداد وبيروت ودمشق…تحديات لا تشبه هذا الزمان وتصلح أن تكون من مشاكل العصور الوسطي.

أولى هذه المدن التي نعمت بالكهرباء كانت مدينة دمشق، التي يعود نور الكوران فيها، كما كان الدمشقيون يسمونه، إلى سنة 1907. أنير الجامع الأموي أولاً، ومن ثمّ السراي الكبير في ساحة المرجة، ومن بعده كلية الطب فى حيّ البرامكة.

ولكن الدولة العثمانية قطعت التيار الكهربائي عن دمشق في نهاية عام 1917، لعجزها عن تمويل الطاقة، وعادت المدينة إلى الشموع، ليُعاد إنارتها بالكامل في عهد الملك فيصل الأول، جد الملك فيصل الثاني.

وبعد دمشق كانت بيروت، التي حصلت على أول امتياز كهرباء في زمن العثمانيين أيضاً سنة 1906 وسيّرت الترامواي في شوارعها بعد نصب أعمدة الكهرباء سنة 1909. فكانت إنارة السراي الكبير أولاً، ومن ثم جامعة بيروت الأمريكية في منطقة رأس بيروت التي قامت مؤخراً بإطفاء التكيّيف المركزي داخل القاعات العلمية وفى السكن الطلابي، بسبب شح مادة الفيول.

أمّا بغداد فقد تأخرت قليلاً عن شقيقتيها ولم يُمنح فيها أول امتياز كهرباء حتى سنة 1912، وكان للمستثمر العراقي محمود بك حلبى الشابندر. ولكنه لم يتمكن من إكمال مشروعه بسبب اندلاع الحرب العالمية الأولى فانتظر البغداديون حتى سنة 1917 لينعموا بنور الكهرباء. أول ما أُنير في بغداد كان شارع الرشيد الأشهر بين شوارع المدينة، تلاه السراي الحكومي ثم المستشفيات في باب المعظم، وأخيراً المعسكرات في كرّادة مريم.

وكان أهالي دمشق وبغداد وبيروت قد أطلقوا إضراباً شاملاً ضد شركات الكهرباء في مدنهم سنة 1931، احتجاجاً على زيادة التعرفة الناتجة عن الأزمة الاقتصادية العالمية (الكساد الكبير سنة 1929). قاطع الدمشقيون والبغداديون والبيارتة هذه الشركات، البلجيكية – الفرنسية في سوريا ولبنان والبريطانية في العراق، وعادوا طوعاً إلى مصابيح الكاز، كما قاطعوا الترامواي العامل على الكهرباء وأضرموا النار في قافلاته، وصاروا يستقلون الدواب لقضاء حاجاتهم اليومية. تعرضت شركات الكهرباء هذه إلى خسائر فادحة، أجبرتها على تخفيض التعريفة بقيمة فلسين فى العراق وقرش واحد في كل من سورية ولبنان.

لو عرفوا أن أحفادهم سيعيشون في ظلام، لربما ما فعلوا…

***

 

 

 

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *