حلّاق صامت، باشا رحيم، وتاجر إنساني

 

سامي مروان مبيّض (دمشق 21 نيسان 2022)

بما أن الأعمال الرمضانية باتت على كل لسان اليوم، أريد التوقف قليلاً عند ظاهرة النمطية المتعلقة في ثلاث نماذج من الشخصيات السورية: الباشا والحلّاقً في الأعمال التاريخية ورجل الأعمال أو التاجر في الأعمال المعاصرة.

الحلّاق

أخذ الحلّاق الدمشقي شكله الدرامي الحالي بفضل الشخصية التي قدمها النجم الراحل سليم كلّاس في المسلسل الشهير “أيام شامية” سنة 1992. أبدع في دوره، ولكن هل يُعقل أن يتكرر نفس الدور، بنفس الصفات ونفس الحركات ونفس الحدود، في كل عمل “شامي” عرض على الشاشة منذ ذلك التاريخ؟ لقد مر ثلاثون عاماً على “أيام شامية” ولا يزال الحلّاق هو ذاته، يظهر بذات الصفات: البخيل، الثرثار، الجشع وكتيّر الغلبة. هل عقرت بطون النساء؟ هل وصل الكتّاب إلى درجة من النمطية القاتلة تمنعهم من رسم شخصية حلّاق مختلف؟ صامت مثلاً، أو مثقف ثقافة عالية، أو هادئ الطبع؟

الباشا

أكاد لا أتذكر “باشا” ظهر على الشاشة إلّا وكان جزاراً، متسلطاً، سفاحاً في تعسفه وظلمه، مغتصباً للأرض والعرض. هذه الصورة النمطية تدل على أن جميع من كتب عن شخصيات “الباشا” كان لا يعرف باشاوات الشّام الحقيقيين، مثل محمد فوزي باشا العظم وأحمد عزت باشا العابد وعبد الرحمن باشا اليوسف. الأول له أيادي بيضاء على مدينة دمشق عندما كان رئيساً لبلديتها، فقد رمّم الجامع الأموي بعد حريق عام 1893 وأشرف على بناء مستشفى الغربا في البرامكة (مشفى جامعة دمشق). والثاني كان صاحب مشروع خط الحديد الحجازي، وله يعود الفضل في إنارة مدينة دمشق ومد شبكة الكهرباء وخطوط الترامواي فيها سنة 1907. أما الثالث، فقد قاد حجاج بيت الله الحرام ودافع عن حياة الناس وحقوقهم وأرزاقها، كما كان أول متبرع في كل مجاعة ضربت ببلاد الشّام.

الباشوات بشر، مثل كل الناس، كان فيهم الظالم، وفيهم الرحيم الإنساني.

رجل الأعمال أو التاجر

معظم الأعمال المعاصرة لا تفرق بين “التاجر” و”رجل الأعمال” (وهو مصطلح دخيل نسبياً على مجتمعنا). رجل الأعمال يعمل في كل شيء، من المقاولات والإنشاء إلى الاستيراد والتصدير، أما التاجر، فيكون له اختصاص محدد: تاجر حبوب مثلاً، أو قماش. معظم الأعمال التلفزيونية تظهرهم جميعاً بلا رادع أخلاقي، يعتدون على حقوق الصغار، يتحرشون بالنساء ويظلمون موظفيهم. يظهرون دوماً ببدلة رسمية وربطة عنق ملوّنة، يدخنون السيجار الفاخر ويركبون سيارة “فيميه” من طراز BMW أو مرسيدس. هؤلاء هم تجار الحرب، الموجودين في كل الأزمنة، ولا علاقة لهم بالتاجر السوري الحقيقي.

أنا ابن تاجر، وحفيد تاجر، وحفيد حفيد تاجر، وأعرف تجار بلدي القدامى جيداً. سأكتب عنهم القليل، لعل كلامي يجد آذاناً صاغية بين كتّاب المسلسلات الدرامية. هؤلاء كانوا يتعبون ويشقون لتأمين رواتب موظفيهم في كل يوم خميس، ولا ينامون الليل قبل بداية الشهر. الكثير منهم بنوا بيوتاً لموظفيهم، وساهموا في زواج أولادهم. تجار الشّام كانوا صانعي نهضة اقتصادية وبناة وطن، هم الذين جلبوا مياه الفيجة إلى دمشق، ودعموا الليرة السورية بعد الجلاء، وهم الذين جمعوا 25 مليون ليرة سورية دعماً للجيش السوري في الخمسينيات، وتبرعوا للمجهود الحربي، في فلسطين والسويس، وفي الجزائر. من يشبههم في الأعمال التلفزيونية كان الراحل الكبير رفيق سبيعي في مسلسل ليالي الصالحية والمرحوم طلحت حمدي في مسلسل حمام القيشاني.

اعتب على المخرجين والكتّاب الذين شوهوا صورة التاجر السوري، إمّا عن قصد أو سوء معرفة. شأنهم شأن الباشا، فيهم الجيد والأخلاقي، وفيهم الجشع والجبّار.

بانتظار مسلسل رمضاني في المستقبل يُظهر حلّاق صامت، وباشا رحيم، أو تاجر إنساني. لو فتشتم قليلاً في كتب التاريخ وفي زوايا المجتمع السوري اليوم، ستجدونهم…

***

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *