القاموس الشامي في شعر نزار قباني

  

سامي مروان مبيّض – صحيفة الوطن (دمشق، 25 تشرين الثاني 2021)

 

كانت علاقة نزار قباني بدمشق قصيدة حب طويلة لا تنتهي، وصلت حد العنصرية في بعض الأحيان، حيث كان يراها الأجمل والأنقى والأعرق بين كل المدن. فقد شبهها بالوردة تارة وبالمرأة الفاتنة تارة أخرى، وأخلص لها جلّ شعره، وله يعود الفضل في إطلاق عبارة “دمشق الياسمين” رائجة الاستخدام اليوم

ومن منجزاته الدمشقية أنه روّج للهجة أهل الشّام ولعباراتهم المحلية ومفرداتهم، عامداً متعمداً وليس بسبب أي ضعف في مفرداته الشعرية، كما قال عنه النقّاد في عصره وزمانه. فقد تعامل مع أحياء دمشق القديمة وكأنها من أشهر أحياء العالم، وطالما ذكر «مئذنة الشحم» مسقط رأسه، من دون الحاجة إلى أي تفسير، وكأنه حيّ في وسط باريس أو لندن، معروف من كل الناس. نعم، لقد خلد دمشق بما فيها ومن فيها.

شهدت حقبة الأربعينيات من القرن الماضي محاولتين ناجحتين روجتا اللهجة الشامية، كانت الأولى على يد الفنان النجم عبد اللطيف فتحي الذي “شوّم” المسرح في دمشق، ونقله من اللغة الفصحى أو اللهجة المصرية إلى اللهجة الدمشقية المعروفة. وقد تحدث فتحي باللهجة المحكية التي كان قد ألفها في حارات سوق ساروجا العتيقة، حيث ولد وقضى سنوات طفولته.

أما التجربة الثانية فكانت عبر أشعار نزار، العاطفية منها والسياسية، والتي فُهمت في كل الدول العربية، من المحيط إلى الخليج، من دون الحاجة إلى شرح أو توضيح. معظم الناس يقولون إن أعمال التلفزيون السوري هي التي روجت للهجة السورية وجعلتها مفهومة في الخليج والمغرب العربي، ولكن تجربة نزار الفريدة سبقت ولادة التلفزيون السوري بسبعة عشر عاماً. وإليكم بعض تلك المفردات والعبارات الشامية التي وردت في أشعاره، وفي هذه الوقفة لا أتحدث عن عامية، فنزار لم يكتب بالعامية، ولم يتحدث حتى في أحاديثه العادية بها، بل أتحدث عن عبارات وكلمات هي من خصائص الحديث الشامي، سواء كانت فصيحة مهجورة، أم دارجة، أو أجنبية سارت في دمشق دون سواها.

قصيدة أيظن (غنتها نجاة الصغيرة)

حتى فساتيني التي أهملتها

فرحت به… رقصت على قدميه

وقد أثارت كلمة “فساتين” غضب فحول الشعر العربي في الخمسينيات، لأنها كانت مأخوذة من اللهجة الدارجة. والأصح هي كلمة “أثوابي،” وانتقد محمد عبد الوهاب لغنائها وتلحينها، ولكن براعة نزار وهو يتحدث بلسان امرأة في حالة وجدانية جعلته يختار ما تقوله من دون تغيير.

قصيدة محاولات قتل امرأة لا تقتل (غنتها ماجدة الرومي)

وعدتك أن لا أتلفن ليلاً… وأن لا أفكر فيك، إذا تمرضين وأن لا أخاف عليك وأن لا أقدم ورداً… وأن لا أبوس يديك..

وكلمة “أبوس” هي من الدارجة المشرقية المعروفة في سورية ولبنان، وتعني هي تعني “أُقبل.”

واستعمل “أتلفن،” وهي أجنبية بدل “أهاتف،” وفي هذين الاستعمالين جرأة وتفوق.

قصيدة من مفكرة عاشق دمشقي 

أدمت سياط حزيران ظهورهم… فادمنوها وباسوا كف من ضربا

وهنا يكرر نزار استخدام كلمة “البوس” بدلاً من التقبيل.

 

قصيدة الوصية

قُم يا طويل العمر

من حجرتك الوردية

وافتح شبابيكك للشمس

وللعدل وللرعية

فما رآك الناس من آخر أيام بني أمية

وكلمة “شبابيك” هي من الدارج أيضاً والمقصود فيها هو “النوافذ،” وخياره كان من ملاءمتها وسرعة تلقيها من القارئ والسامع.

 

حوار مع أعرابي أضاع فرسه

لو أملك كرباجاً بيدي

جردت قياصرة الصحراء من الأثواب الحضرية

ونزعت جميع خواتمهم… ومحوت طلاء أظافرهم

وسحقت الأحذية اللمّاعة… والساعات الذهبية

وهنا نجد استخدام من أولها “الكرباج” (السوط) والثانية (قيصر) والدالة على الحكام، وهي لفظة غير عربية، لكنها كانت موحية، واستخدامه لتعبير الأحذية اللمّاعة مما يدور على الألسنة.

 

قصيدة مورفين

اللفظة طابة مطاطٍ… يقذفها الحاكم من شرفته للشارع.. ووراء الطابة يجري الشعب ويلهث.. كالكلب الجائع..

والمقصود طبعاً بكلمة “طابة” هي “الكرة،” وهي من الألفاظ التي رافقته من طفولته، وجاء استعمالها موفقاً، لتحديد مستوى الإدراك أيضاً.

 

قصيدة جميلة بو حيرد

القيد يعضّ على القدمين وسجائر تطفأ في النهدين ودم في الأنف.. وفي الشفتين

والسجائر طبعاً هي التبغ، ويستخدمها نزار للتعبير عن التعذيب الذي تعرضت له مناضلة الجزائر الأشهر جميلة بو حيرد. وهي لفظة أجنبية وضعها بدل التبغ أو اللفافة، للدلالة على أسلوب التعذيب.

 

قصيدة بلقيس

والموت.. في فنجان قهوتنا.. وفي مفتاح شقتنا.. وفي أزهار شرفتنا.. وفي ورق الجرائد.. والحروف الأبجدية

وكلمة “الفنجان” ليست فصيحة مع أنها أدرجت في المعاجم، والأصح هي كلمة “فنجال” ولكنها درجت على ألسنة العامة في هذه القصيدة التي قالها نزار بعد مقتل زوجته العراقية بلقيس الراوي في بيروت سنة 1981. وكذلك كلمة “شقة” هي من الدارج وهي تعني البيت أو المسكن، وتقدم المعنى الأدق بعد غياب الدور الفسيحة.

 

قصيدة قارئة الفنجان (غناها عبد الحليم حافظ)

جلست والخوف بعينيها تتأمل فنجاني المقلوب قالت: يا ولدي.. لا تحزن فالحب عليك هو المكتوب يا ولدي

في هذه القصيدة المشهورة، التي خلدها عبد الحليم، يعيد نزار استخدام كلمة «فنجان».

 

قصيدة مايا

مايا على الموكيت حافية

وتطلب أن أساعدها على ربط الضفيرة

وأنا أواجه ظهرها العاري

كطفل ضائع بين آلاف الهدايا

وكلمة “موكيت” ليست عربية بالمطلق وهي تعني “السجّاد،” واستعملها من دون تردد لأنها الأكثر مناسبة للتعبير عن الحالة والمكان.

 

قصيدة خمس رسائل إلى أمي

أيا أمي..

أنا الولد الذي أبحر ولا زالت بخاطره تعيش عروسة السكر فكيف.. فكيف يا أمي غدوت أباً.. ولم أكبر؟

“عروسة السكَّر” وهي عبارة عن أكلة شامية بامتياز كانت معروفة جيداً عند أطفال دمشق، ولكنه لا يشرح معناها. وفي القصيدة نفسها يقول نزار

مضى عامان.. يا أمي ووجه دمشق، عصفورٌ يخربش في جوانحنا يعض على ستائرنا.. وينقرنا.. برفقٍ من أصابعنا..

عبارة “يُخربش” من الدارج الدّال على الإفساد استعمالها للكتابة وفعل “يعضُ” وكلمة “ينقُرنا” ومع ذلك بهذه القصيدة من أشهر قصائد نزار وأكثرها رواجاً في الوطن العربي، وما جاء من هذه الكلمات مفهوم، وهو من الدارج وفيه فصاحة، لكنه مهمل، ويجبن الشعراء عن استخدامه عادة.

وفي ختام القصيدة، يقول نزار:

وأين رحاب منزلنا الكبير.. وأين نعماه؟ وأين مدارج الشمشير…تضحك في زواياه وأين طفولتي فيه؟ أجرجر ذيل قطته وآكل من عريشته وأقطف من بنفشاه.

و”الجرجرة” ليست من اللغة العالية طبعاً وإنما من الكلمات الرائجة في دمشق، وتحمل دلالتها في لفظها، وكلمة (الشمشير) أيضاً خاصة به.

 

وفي الوضوء في ماء العشق والياسمين

من جهة (باب البريد). حاملاً معي، عشرة أطنانٍ من مكاتيب الهوى كنت قد أرسلتها في القرن الأول للهجرة ولكنها لم تصل إلى عنوان الحبيب أو فرمها مقص الرقيب..

لجأ إلى ما يدور على الألسنة “مكاتيب” بدل “الرسائل” لأنها أقرب، و”فرمها” بدل “أتلفها” أو “قصها” لأنها تعطي دلالة السحق والعنف. وفي القصيدة ذاتها يقول

أعود

بعد بعدما تناثر أجزائي في كل القارات

وتناثر سعالي في كل الفنادق

فبعد شراشف أمي المعطرة بصابون الغار

لم أجد سريراً أنام عليه

وعبارة “شراشف” هي من العامية السورية.

 

 في رثاء ابنه توفيق قباني

يقول نزار في قصيدة “الأمير الدمشقي:”

أشيلك، يا ولدي، فوق ظهري كمئذنة كسرت قطعتين.. وشعرك حقل من القمح تحت المطر.. ورأسك في راحتي وردة دمشقية.. وبقايا قمر.

هو قال “أشيلك” وهي من العامية الدارجة، ولم يقل: “أحملك” أو “أرفعك.”

قصيدة أنت اللغة

وعلموني كلمة جديدة

أعلقها كالحلق

في أذن حبيبتي 

وكلمة “حلق” هي العبارة الدارجة بدلاً من “الأقراط.”

 

منشورات فدائية على جدار إسرائيل

مشرشون نحن في خلجانها مثل حشيش البحر.. مشرشون نحن في تاريخها في خبزها المرقوق، في زيتونها في قمحها المصفر …مشرشون، نحن في وجدانها… باقون، في آذارها باقون، في نيسانها…باقون كالحفر على صلبانها…باقون في نبيها الكريم، في قرآنها.. وفي الوصايا العشر..

وكلمة “مشرشون” من الكلام الدارج المستخدم كثيراً، والذي يعود إلى (شرش) ويؤدي المعنى ببراعة وفيه دلالة موسيقية حروفية. و”المرقوق” من رقّ، لكنها بصيغتها شامية تدل على نوع من الخبز.

 

قصيدة إلى صاحبة السمو حبيبتي سابقاً

 

وتزوجت أخيراً… بئر نفط

وتصالحت مع الحظ أخيراً

كانت السحبة… يا سيدتي… رابحة

ومن الصندوق أخرجت أميراً

والـسحبة هنا تعني “سحبة اليانصيب” وهي عبارة دارجة في المجتمع الدمشقي.

 

قصيدة بيروت والحب والمطر

ارسمي وجهي على كراسة الأمطار، والليل، وبللور الحوانيت، وقشر السنديان.. طارحيني الحب.. تحت الرعد، والبرق.. وإيقاع المزاريب.. امنحيني وطنا في معطف الفرو الرمادي.. اصلبيني بين نهديك مسيحاً..

“معطف الفرو” ليست فصيحة، بل عامية أيضاً ولا كلمة “بللور.”

 

مرسوم بإقالة خالد بن الوليد

رهنوا الشمس لدى كل المرابين… باعوا بالملاليم القمر

باعوا سيف عمر

و”الملاليم” هي عبارة تعبيرية عن النقود، دارجة في اللهجة العامية المشرقية.

 

قصيدة الاستجواب

قتلت إذا قتلتُ

كل الطفيليات في حديقة الإسلام

كل الذين يطلبون الرزق

من دكانة الإسلام

وكلمة “دكانة” هي من العامية الدمشقية، والمتعارف عليه لغوياً هي كلمة «متجر».

 

قصيدة الثقب

لقد مر عشرون عاماً علينا… ونحن توابيت مصنوعة من رخام… نبايع أي عقيد يجيء… ونلعق جزمة أي نظام….

كلمة “جزمة” ليست فصحى وكذلك كلمة “تابوت” والأصح هي نعش.”

ليست هذه الوقفة إحصائية، ولكنني وأنا أقرأ “عروسة السكر” شُدهت من الاستخدام وبراعته، فاستعرضت بعض الألفاظ الدارجة والتي أجاد نزار دون سواه استخدامها وتوظيفها في شعره، ولقيت استحساناً كبيراً من القراء، وتجاوزت ما يمكن أن يثار عليها من النقاد واللغويين، وقد أثيرت حولها قضايا في حينها، ما لبثت أن همدت، ليصبح استخدام نزار لها الطريق الأمثل الذي يقتدي به الشعراء.

وما عرضته وغيره كثير يدل على تشرّب نزار لبيئته ومفرداتها، واعتزازه بهذه اللغة ليقوم بتعميمها لغة شعرية، يحق لنا أن نقول: ليست فصحى، وليست عامية، وليست أجنبية.. بل الأصح أن نقول: إنها لغة نزارية، إنها لغة الشعر.

 ***

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *